عبد الحميد بن عبد المجيد الأول السلطان الرابع والثلاثون من سلاطين الدولة العثمانية، وآخر من امتلك سلطة فعلية منهم. وولد في 21 سبتمبر 1842 م، وتولى الحكم عام 1876 م. أبعد عن العرش عام 1909 م بتهمة الرجعية، وأقام تحت الإقامة الجبرية حتى وفاته في 10 فبراير 1918 م.
يعتبره كثير من المسلمين آخر خليفة فعلي للمسلمين لما كان له من علو الهمة للقضايا الإسلامية وما قام به من مشروع سكة حديد الحجاز التي كانت تربط المدينة المنورة بدمشق وكان ينوي أن يمد هذا الخط الحديدي إلى كل من اسطنبول وبغداد.
قالت ابنته الاميرة "عائشة عثمان اوغلي بنت السلطان عبد الحميد " في كتابها (والدي السلطان عبد الحميد )
: كان والدي متوسط القامة, يميل شعر راسه ولحيته إلي اللون الكستنائي الغامق كثيف شعر الراس الافي قمتها , وكان محدب الانف ,بالشكل الذي يحمل سمة آل عثمان , اما نظراته فكانت تنم عن ذكاء وحساسية ,وكان صوته جهورياً قوياً تستعذب كلماته حين تسمعه ,وكان قادراً علي شرح افكاره
ومراميه بأفصح العبارات وأرق الكلمات, تشهد في حركاته وتصرفاته وقار السلطنة وبهاءها, وخلاصة القول انه كان نمطاً من انماط الاسرة العثمانية.
وكان يتوضأفي اليوم ثلاث او اربع مرات , ويؤدي صلاته بإنتظام
وسجادته يحملها معه اينما ذهب , وكان يقول إن إقامة الصلاة علي الحرير
ليست جائزة ...
بهذه الكلمات ندخل الي سيرة السلطان عبد الحميد رحمه الله , والذي نال تاريخه من الافتراء والظلم ما الله به عليم , علي أيدي
العلمانيين واعداء الاسلام قاتلهم الله ...
صورة السلطان عبد الحميد رحمه الله
حياته ونشأته
-
ماتت والدة السلطان عبدالحميد وهو في العاشرة من عمره فاعتنت به الزوجة الثانية لأبيه وكانت عقيماً. فأحسنت تربيته وحاولت أن تكون له أم، فبذلت له من حنانها كما أوصت بميراثها له. وقد تأثر السلطان عبدالحميد بهذه التربية وأعجب بوقارها وتدينها وصوتها الخفيض الهادئ، وكان لهذا انعكاس على شخصيته طوال عمره.
تلقى السلطان عبدالحميد تعليماً منتظماً في القصر السلطاني على أيدي نخبة مختارة من أشهر رجالات زمنه علماً وخلقاً. وقد تعلم من اللغات العربية والفارسية ، ودرس التاريخ وأحب الأدب، ونظم بعض الأشعار باللغة التركية العثمانية.
وتدرب على استخدام الاسلحة وكان يتقن استخدام السيف، وإصابة الهدف بالمسدس، ومحافظ على الرياضة البدنية، وكان مهتماً بالسياسية العالمية ويتابع الأخبار عن موقع بلاده منها بعناية فائقة ودقة ناردة.
زيارته الى أوروبا مع عمه السلطان عبدالعزيز
قام السلطان عبدالعزيز بزيارة أوروبا يرفقه وفد عثماني رفيع المستوى وكان من ضمنه الأمير عبدالحميد الذي ظهر أمام الأوروبيين بملابسه البسيطة وسيرته الحميدة في العفة وقد استعد الأمير عبدالحميد لهذه الرحلة بمطالعات واسعة،
فإنه كان دقيقاً في رؤيته، وفي حكمه على الأشياء التي رآها في الغرب، ولقد ألتقى الوفد العثماني بساسة ذلك العصر في أوروبا مثل؛ نابليون الثالث في فرنسا، والملكة فكتوريا في إنجلترا، وليوبلد في الثاني في بلجيكا، وغليوم الأول
في ألمانيا، وفرنسوا جوزيف في النمسا وقد سبقت تلك الرحلة زيارته مع السلطان عبدالعزيز الى مصر وانتبه أثناء وجوده في مصر الى الزيف الكاذب للبريق الأوروبي والأخذ هناك بالشكليات الأوروبية ، مما جعل مصر تستدين
وتغرق في الديون، نتيجة انطلاق الوالي الخديوي اسماعيل باشا في إسرافه ومحاولته جعل مصر قطعة من أوروبا ، وأما رحلته الى أوروبا فقد استغرقت من 21 يونيو الى 7 أغسطس من عام 1867م. زار الوفد العثماني: فرنسا وإنكلترا وبلجيكا والدولة النمساوية المجرية.
وفي هذه الرحلة الأوروبية ، تفتح ذهن السلطان عبدالحميد الى أمور كثيرة، انعكست على فترة حكمه كلها بعد ذلك. وهذه الأمور هي :
1- الحياة الأوروبية بكل مافيها من طرق معيشة غريبة وأخلاقيات مختلفة وشكليات.
2- التطور الصناعي والعسكري وبخاصة في القوات البرية الفرنسية والألمانية وفي القوات البحرية البريطانية.
3- ألاعيب السياسة العالمية
أثرت رحلة السلطان عبدالحميد الى أوروبا أيضاً في اتباعه سياسة استقلالية تجاه أوروبا. ولم يعرف عن عبدالحميد تأثير أي حاكم أوروبي عليه، مهما كانت صداقته ومهما كانت درجة التقارب بين بلده وبين الدولة العثمانية.
وتعلم السلطان عبدالحميد من هذا درس القدرة على إسكات القوى التي تود تحطيم الدولة العثمانية. وتعلم ذكاء الحوار السياسي وهو مابرع فيه بعد ذلك.
بيعته للخلافة وأعلان الدستور
بويع بالخلافة بعد أخيه مراد ، يوم الخميس 11 شعبان 1293هـ 31 أغسطس 1876م. وكان عمره آنذاك اربعاً وثلاثين سنة، وحضر لمبايعته الوزراء والأعيان وكبار الموظفين من مدنيين وعسكريين في سراي طوبقبو. وهنأه بالخلافة كذلك رؤساء الطوائف المختلفة، وأطلقت المدافع بسائر أطراف السلطنة احتفالاً بهذه المناسبة.
وأقيمت الزينات بجميع جهات استانبول ثلاثة أيام وأرسل الصدر الأعظم برقيات الى دول العالم لإعلامها بذلك.
وكان السلطان عبدالحميد قد عين مدحت باشا صدراً أعظم، ثم أعلن في 23 ديسمبر (1293هـ/1876م) الدستور الذي يضمن الحريات المدنية وينص على مبدأ الحكومة البرلمانية.
هذا الدستور ، كان البرلمان يتكون من مجلسين: مجلس النواب أو المبعوثان ثم مجلس الأعيان أو الشيوخ.
وقد تعرض السلطان عبدالحميد في بداية حكمه الى استبداد الوزراء واشتداد سياستهم التغريبية بقيادة جمعية العثمانيين الجدد والتي كانت تضم النخبة المثقفة التي تأثرت بالغرب والتي استطاعت الأيدي الماسونية تجندهم لخدمة أهدافها،
وقد بلغ من استبداد الوزراء بالحكم، أن كتب مدحت باشا، وهو في مقام الرئاسة لنخبة العثمانيين الجدد، الى السلطان عبدالحميد في أول عهده بالعرش (1877م): (لم يكن غرضنا من إعلان الدستور إلا قطع دابر الاستبداد، وتعيين
مالجلالتكم من الحقوق وما عليها من الواجبات، وتعيين وظائف الوزراء، وتأمين جميع الناس على حريتهم وحقوقهم، حتى تنهض البلاد الى مدارج الارتقاء، وإني أطيع أوامركم إذا لم تكن مخالفة لمنافع الأمة .
ويقول السلطان عبدالحميد في هذا: (ولقد وجدت مدحت باشا ينصّب نفسه آمراً ووصياً عليّ. وكان في معاملته بعيداً عن المشروطية (الديمقراطية) وأقرب الى الاستبداد).
وكان مدحت باشا وأصحابه من الماسون يدمنون الخمر قال السلطان عبدالحميد في مذكراته: (...ومن المعروف أن أحرار ذلك العهد من شعراء وأدباء اجتمعوا مساء يوم صدور مرسوم القانون الأساسي في قصر مدحت باشا، لا ليتحدثوا في أمور الدولة ، بل في أمور السكر والعربدة، وهم يحتسون
الخمر، ومدحت باشا يدمن الخمر منذ شبابه ومشهور عنه هذا وألتقت نشوة الخمر بالنشوة التي بعثها إعلان القانون الاساسي وعندما نهض مدحت باشا من على مائدة الأكل خرج مستنداً على أذرع الآخرين حتى لا يقع على الأرض. وبينما كان يغسل يديه قال لزوج أخته طوسون باشا وهو يؤرجح لسانه في فمه (بتأثير الخمر).
ياباشا! من يستطيع الآن، وبعد كل ما وصلت إليه أن يبعدني عن منصبي؟! من ؟! قل لي كم عاماً سأبقي في الصدارة العظمى؟
رد عليه طوسون باشا قائلاً:
إذا بقيتم على هذا الحال، فليس أكثر من أسبوع!
لقد كان مدحت باشا في مجالس الخمر الخاص به يفشي أدق اسرار الدولة وكانت هذه الأسرار تنتشر في اليوم التالي بين أهالي استانبول. وفي إحدى الليالي تحدث مدحت باشا عن عزمه على إعلان الجمهورية في الدولة العثمانية وأنه سيصبح رئيساً للجمهورية العثمانية الجديدة ثم إمبراطوراً لها. تماماً مثلما حدث مع نابليون الثالث بفرنسا).
وكان مدحت باشا متهماً بقتل السلطان عبدالعزيز وشكل السلطان عبدالحميد لجنة للتحقيق في ذلك ثم قدم المتهمون الى المحكمة التي أدانتهم وحكم على مدحت باشا بالإعدام وتدخل السلطان عبدالحميد وخفض الحكم الى السجن ثم نفي الى الحجاز حيث مقر السجن العسكري هناك.
عملة ورقية عثمانية فئة عشرة قروش اصدرت عهد السلطان عبدالحميد الثاني عام 1293 هجري الموافق1876م. تعتبر من اوائل العملات الورقية العثمانية.
وهكذا ظل السلطان عبدالحميد الثاني
(1293-1327هـ/1876-1909م) يتمتع بالسلطة التي سبق لأسلافه أن تمتعوا بها، بحيث إن مدحت باشا ذاته كان أول الضحايا. كما أن الصلاحيات الواسعة التي منحها الدستور للسلطان حدت من سلطة رئيس الوزراء بحيث لم يتيح له أن يلعب سوى دور ثانوي في تسيير دفة الحكم.
وكان عصر السلطان عبد الحميد يمربظروف عصيبة، وازمات شديدة، وتآمر عالمي على الدولة العثمانية من الداخل والخارج فشرع في إصلاح الدولة وفق التعاليم الاسلامية لمنع التدخل الأوروبي في شؤون الدولة وحرص على تطبيق الشريعة الاسلامية وقام بإبعاد الكتّاب والصحفيين عن العاصمة وقاوم كافة الاتجاهات الغربية المخالفة للحضارة الاسلامية المجيدة في ولايات الدولةواستطاع أن يشكل جهاز استخباراتي قوي لحماية الدولة من الداخل وجمع معلومات عن أعدائه في الخارج واهتم بفكرة الجامعة الاسلامية وحقق بها نتائج عظيمة واهتز الأوروبيون من هذا التفكير الاستراتيجي العميق وعملوا على تفتيتها.
ظروف واحداث عصيبة
تمردات وثورات في البلقان
قام سكان الجبل الأسود والصرب بتحريض بلاد الهرسك للخروج عن الدولة العثمانية وكان ذلك في عام (1293هـ/1876م) واستطاع العثمانيون أخمادها، ورغب السلطان عبدالحميد في منع الدول الأوروبية من التدخل، فأصدر قراراً بفصل القضاء عن السلطة التنفيذية ، وتعيين القضاة بالانتخاب عن طريق الأهالي، والمساواة في الضرائب بين المسلمين والنصارى ... ولم يرض ذلك السكان، فعادوا الى الثورة التي قمعت أيضاً، ولكن النمسا التي كانت وراء الثورة وترغب في ضم البوسنة والهرسك إليها استمرت في تحريض السكان ضد الدولة العثمانية، فعملت النمسا مع روسيا وألمانيا وفرنسا وانكلترا على الطلب من السلطان بالقيام بإصلاحات فوافق عليها السلطان، ولكن نصارى البوسنة لم يتقبلوا بذلك. وهذا يدل على المطالبة بالإصلاحات ليست سوى مبررات واهية، وحقيقة الأمر أنهم يريدون التدخل في شؤون الدولة بشكل مباشر وغير مباشر لإضعافها والإطاحة بها.
كما قامت ثورة البلغار في نفس الوقت الذي قام فيه نصارى البوسنة والهرسك بثورتهم بدعم من النمسا والدول الأوروبية وخاصة روسيا، فقد تأسست جمعيات في بلاد البلغار لنشر النفوذ الروسي بين النصارى الأرثوذكس والصقالبة، وكانت تدعمها روسيا وتمدها بالسلاح، وتبذل هذه الجمعيات بدورها جهدها لإثارة سكان الصرب والبوسنة والهرسك، وتحرضهم على الثورة ضد العثمانيين. وعندما أنزلت الدولة العثمانية بعض الأسر الشركسية
احتج البلغار على ذلك، فقاموا بثورة وساعدتهم روسيا والنمسا بالسلاح والأموال؛ فتمكنت الدولة العثمانية من القضاء على الثورة، فأخذت الدول الأوروبية تثير الشائعات عن المجازر التي ارتكبها العثمانيون ضد النصارى
والعكس هو الصحيح وبهذه الشائعات اثير الرأي العام الأوروبي ضد الدولة العثمانية، وطالبت الحكومات الأوروبية بإتخاذ إجراءات صارمة ضد العثمانيين ومنها الحصول البلغار على استقلال ذاتي وتعيين حاكم نصراني لهم.
وقام الروس والألمان والنمساويون بدفع الصرب والجبل الأسود للقيام بحرب ضد العثمانيين، وكانت روسيا ترغب في توسيع حدودها من جهة بلغاريا، والنمسا تريد توسعة حدودها من جهة البوسنة والهرسك، ووعدت هذه الدول
أمير الصرب والجبل الأسود بالدعم. وشرع الجنود الروس بالتدفق سراً على بلاد الصرب، والجبل الأسود، وتمكنت الدولة العثمانية من الانتصار على الصرب وحلفائهم، فتدخلت الدول الأوروبية وطلبت وقف القتال وإلا فالحرب الواسعة.
واجتمع مندوبوا الدول الأوروبية في استانبول وقدموا اقتراحات للدولة من أهمها: تقسيم بلاد البلغار الى ولايتين ويكون ولاتها من النصارى، وأن تشكل لجنة دولية لتنفيذ القرارات، وأن تعطى هذه الامتيازات لإماراتي البوسنة
والهرسك أيضاً، وأن تتنازل الدولة عن بعض الأراضي للصرب والجبل الأسود.
ولكن الدولة العثمانية رفضت هذه القرارات، وعقدت صلحاً منفرداً مع الصرب سحبت نتيجته جيوشها من بلاد الصرب، وأن يرفع العلم العثماني والصربي دليلاً على السيادة العثمانية.
الحرب الروسية العثمانية
كانت روسيا ترغب في الوصول الى المياه الدافئة بسبب عوامل دينية واقتصادية وجغرافية وقد نص (بطرس الأكبر) (1627-1725م) في وصيته للروس (في الفقرات التاسعة والحادية عشرة والثالثة عشرة) على ضرروة الصراع الحضاري ضد العثمانيين ، الى أن تنتهي الدولة العثمانية من الوجود.
يقول (بطرس الأكبر) في الفقرة التاسعة من وصيته:
(نقترب من القسطنطينية والهند بقدر الإمكان فمن يملك القسطنطينية فقد ملك العالم. بناء على ذلك ينبغي ملازمة الحرب مع العثمانيين).
وفي الفقرة الحادية عشرة يقول: (نشارك النمسا فيما قصدناه من إخراج العثمانيين من أوروبا).
وأهتمت روسيا بتلك الوصية وفي عصر السلطان عبدالحميد الثاني كثرت الثورات بدعم من روسيا والدول الأوروبية في البلقان واليونان وغيرها من الاقاليم العثمانية ولم تكتفي بذلك بل عملت على قيام دول نصرانية مستقلة مثل رومانيا، وبلغاريا والصرب واليونان وبعد أن حقق العثمانيون انتصارات رائعة في البلقان استعدت روسيا للحرب ثم أعلنتها حرب لاهوادة فيها ضد الدولة العثمانية وانضمت رومانيا الى روسيا ودخل العثمانيون في حرب طاحنة مع الروس، وعبرت الجيوش الروسية نهر الدانوب واستولت على بعض المدن التابعة للعثمانيين ومنها "تيرنوه" و"نيقولبلي بل" التي تقع في بلغاريا حالياً كما استولى الروس على بعض النقاط المهمة والمعابر المؤدية الى البلقان، وقام السلطان عبدالحميد بتغيير كبير في قيادات الجيوش العثمانية للتصدي للغزو الروسي، وقد حاول الروس الاستيلاء على مدينة (بلفنه) التي تقع في بلغاريا حالياً وهي من أهم المعابر الى البلقان، ولكن القائد العثماني الشجاع الغازي
(عثمان باشا) تصدى لهم بكل شجاعة ، فردهم على أعقابهم منهزمين، فأعادوا الهجوم مرة أخرى بقوات أكثر كثافة ومع ذلك نجح ذلك القائد العثماني الفذ في التصدي للروس مرة أخرى، مما جعل السلطان العثماني يصدر مرسوماً خاصاً في الثناء على ذلك القائد.
وأمام هذا الصمود حاول الروس التغيير من سياستهم في الاستيلاء على هذه المدينة واتبعوا سياسة الحصار لها، وحاولوا منع الإمدادات من الوصول الى الجيوش العثمانية فيها، وفي الوقت نفسه عززوا قواتهم وحضر القيصر الروسي
بنفسه على المعركة القادمة وانضم أمير رومانيا الى روسيا وكان معه 100 ألف مقاتل، فأصبحت الكفة العسكرية في صالح الروس، حيث تجاوز عددهم 150 ألف مقاتل ففرضوا حصاراً على ثلاثة خطوط على القوات العثمانية، ومع هذا
فإن العثمانيين المحاصرين بقيادة عثمان باشا صمدوا صمود الابطال، ورغم أن عددهم كان قرابة 50 ألف مقاتل، فإنهم لم يكتفوا بذلك الصمود، بل أعدوا خطة رائعة لهجوم معاكس على خطوط العدو المحاصر لهم طالبين بذلك إما النصر وفك الحصار عنهم أو الشهادة.
وقاد عثمان باشا قواته التي انحدرت على الأعداء وهم يهللون ويكبرون ، فسقطت أعداد منهم شهداء على أيدي قوات الروس، ومع ذلك فقد تمكنوا من اختراق الخط الأول للمحاصرين والخط الثاني، واستولوا على المدافع فيه،
وأصيب القائد عثمان باشا ببعض الجراح عند الخط الثالث فسرت إشاعة قوية بين جنده باستشهاده ففت ذلك في عضدهم، وحاولوا الرجوع الى المدينة، ولكن بعض قوات الروس أصبحت بداخلها، وبذلك أصبح الجند العثمانيون في العراء بين نيران العدو المختلفة، فأضطروا الى الاستسلام للقوات الروسية. وكان ذلك في عام 1294هـ أواخر سنة 1877م، وقد سلم القائد العثماني نفسه وهو جريح الى الروس الذين كانوا معجبين به ويشيدون بشجاعته
وإقدامه، حتى أن القائد العام للقوات الروسية قام بتهنئة عثمان باشا على دفاعه الرائع وأعاد له سيفه احتراماً لقدرته القتالية وصبره. وارسل عثمان باشا الى روسيا في شهر ديسمبر من نفس العام 1877م، واستقبله القيصر بكل مراسم الاحترام ولم يعامل "عثمان باشا" معاملة الأسير.
وقد شجعت تلك الانتصارات الروسية الصرب في البلقان على التحرك ضد العثمانيين وقامت جيوشهم بالهجوم على المواقع العثمانية هناك، فأشغلتهم عن الروس، الذين كانوا في الوقت نفسه يسعون لاحتلال مناطق جديدة. وبالفعل
تمكن الروس من الاستيلاء على صوفيا (عاصمة رومانيا حالياً) ولم يكتف الروس بهذا ، بل توجهوا جنوباً ناحية العاصمة العثمانية القديمة، ووصلوا الى مواقع لاتبعد سوى خمسين كيلومتراً عن استانبول ، وأصبح الموقف داخل الدولة العثمانية سيئاً الى أبعد الحدود.
وفي الوقت نفسه كانت تجري العديد من المعارك بين العثمانيين والروس في الجانب الآسيوي حيث وصل الروس الى الأناضول ، ومع ذلك تمكن العثمانيون من هزيمتهم ومطاردتهم داخل الأراضي الروسية، وانتصر العثمانيون بقيادة احمد
مختار باشا على الروس في أكثر من ست معارك، مما جعل السلطان عبدالحميد يصدر مرسوماً في الثناء عليه، وقد عاود الروس الهجوم في تلك المناطق مرة أخرى وتمكنوا سنة 1295هـ من إنزال الهزائم بالقوات العثمانية والاستيلاء على بعض المناطق في الأناضول نفسها.
وأمام تلك الهزائم العثمانية في أوروبا وفي آسيا اضطرت الدولة العثمانية للدخول في هدنة مع الروس وقبول المفاوضات معهم، حيث وقعت بين الطرفين معاهدة سان ستيفاس عام 1878م.
عقدت هذه المعاهدة في 3 مارس عام 1878م. ووقعها "صفوت باشا" عن الدولة العثمانية وهو يبكي. وكان لابد بالضرورة أن تحتوي هذه المعاهدة على شروط مجحفة بالدولة العثمانية.
لم يكن السلطان عبدالحميد راضياً في الأصل بدخول هذه الحرب لذلك لم يصدق على المعاهدة وقام بجهود سياسية ودبلوماسية مكثفة، حتى أقنع بريطانيا في الوقوف بجانبه، وبذلك ضمن عقد مؤتمر آخر (مؤتمر برلين) لتخفيف آثار معاهدة سان ستفانوه من ناحية، وإخافة روسيا بمنافستها بريطانيا، لكي تصرف روسيا النظر عن الحرب، واستطاع تحقيق مكاسب للدولة، وقللت البنود الخسائر في المعاهدة الأولى.
ودلت أحداث المعاهدتين على عبقرية السلطان عبدالحميد السياسية، التي تمثلت في إحداث النفور بين دولة روسيا ودولة ألمانيا أيضاً.
وقد ذكر بعض المؤرخين أن في كواليس مؤتمر برلين عرض بسمارك تقسيم الإمبراطورية العثمانية على مذبح السلام الأوروبي ، فعرض على بريطانيا مصر وعلى فرنسا تونس والشام وعلى النمسا البوسنة والهرسك وعلى روسيا البوغازين (البسفور والدردنيل) وغير ذلك من أملاك السلطان. غير أن هذه العروض لم تدرج في مقررات المؤتمر.
وهكذا فإن مؤتمر برلين من المعالم البارزة لتدهور الامبراطورية العثمانية التي أرغمت على التنازل عن مساحات واسعة من أملاكها. كما أنه يسجل تعهد بريطانيا وفرنسا بالمحافظة على ممتلكات الدولة العثمانية. غير أن بريطانيا وفرنسا قد كشفتا عن نواياهما الاستعمارية ، فقد احتلت فرنسا تونس عام (1299هـ/1881م) نطير احتلال بريطانيا لقبرص واحتلت بريطانيا مصر عام (1300هـ/1882م) معلنة أن احتلالها مؤقت.
وهكذا كانت النتيجة من الحرب بين الدولة العثمانية وروسيا ولمواجهة هذه الأوضاع المتردية كان على السلطان أن يتخذ لقب الخلافة لمواجهة التحديات الجديدة، وعمل على إنشاء الجامعة الاسلامية لكي يعمل على تكتل كافة المسلمين من حوله في الداخل والخارج.
ولاشك أن حركة الجامعة الاسلامية قد لاقت استحساناً وقبولاً لدى المسلمين الذين اعتقدوا أن ضعف الدولة العثمانية مرجعه ضعف الشعور الديني عند المسلمين ، الأمر الذي دفع فيه أعداء الاسلام للزحف على دار الاسلام ونهبها بلداً تلو الآخر.
-
الاصلاحات الداخلية
التي قام بها السلطان عبد الحميد
تعريب الدولة
كان السلطان عبدالحميد يرى -منذ أن تولى الحكم- ضرورة اتخاذ اللغة العربية لغة رسمية للدولة العثمانية. وفي هذا يقول: (اللغة العربية لغة جميلة. ليتنا كنا اتخذناها لغة رسمية للدولة من قبل. لقد اقترحت على (خير الدين باشا
-التونسي- عندما كان صدراً أعظم أن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية، لكن سعيد باشا كبير أمناء القصر أعترض على اقتراحي هذا. وقال : (إذا عرّبنا الدولة فلن يبقى -للعنصر التركي- شيء بعد ذلك.
كان (سعيد باشا) رجلاً فارغاً، وكلامه فارغاً. مادخل هذه المسألة بالعنصر التركي؟! المسألة غير هذه تماماً. هذه مسألة ، وتلك مسألة أخرى إتخاذنا للغة العربية لغة رسمية للدولة من شأنه -على الاقل- أن يزيد ارتباطنا بالعرب).
إن السلطان عبدالحميد الثاني كان يشكو وخصوصاً في بداية حكمه من أن الوزراء وأمناء القصر السلطاني ، كانوا يختلفون عنه في التفكير، وأنهم متأثرون بالغرب وبالافكار القوميةوالغربية وكانوا يشكلون ضغط على القصر ، سواء في عهد والده السلطان عبدالمجيد، وفي عهد عمه السلطان عبدالعزيز، أو في عهده هو. لم يقتصر الأمر في معارضة اقتراح السلطان عبدالحميد بتعريب الدولة العثمانية على الوزراء المتأثيرن بالغرب فقط: بل تعداه الى معارضة من بعض علماء الدين.
إن من الأخطاء التي وقعت فيها الدولة العثمانية عدم تعريب الدولة وشعبها بلغة القرآن الكريم والشرع الحكيم.
يقول الاستاذ محمد قطب: (ولو تصورنا أن دولة الخلافة قد استعربت ، وتكلمت اللغة العربية التي نزل بها هذا الدين فلا شك أن عوامل الوحدة داخل الدولة كانت تصبح أقوى وأقدر على مقاومة عبث العابثين، فضلاً عما يتيحه
تعلم العربية من المعرفة الصحيحة بحقائق هذا الدين من مصادره المباشرة: كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، مما كان الحكام والعامة كلاهما في حاجة إليه، على الرغم من كل ماترجم الى التركية وما ألف أصلاً بالتركية حول هذا الدين).
مراقبته للمدارس ونظرته للمرأة وسفور المرأة
عندما تولى السلطان عبدالحميد السلطنة رأى أن المدارس، ونظام التعليم، أصبح متأثراً بالفكر الغربي، وأن التيار القومي: هو التيار السائد في هذه المدارس، فتدخل في شؤونها ووجّهها -من خلال نظرته السياسية- الى الدراسات الاسلامية. فأمر بالآتي:
( استبعاد مادة الأدب والتاريخ العام من البرامج الدراسية لكونها وسيلة من وسائل الأدب الغربي، والتاريخ القومي للشعوب الأخرى مما يؤثر على أجيال المسلمين سلباً.
( وضع دروس الفقه والتفسير والأخلاق في برامج الدراسة.
( الاقتصار فقط على تدريس التاريخ الاسلامي بما فيه العثماني.
وجعل السلطان عبدالحميد مدارس الدولة تحت رقابته الشخصية ووجهها لخدمة الجامعة الاسلامية.
وأهتم بالمرأة وجعل للفتيات داراً للمعلمات ومنع اختلاطهنّ بالرجال وفي هذا يذكر السلطان في معرض الدفاع عن نفسه أمام اتهام جمعية الاتحاد والترقي له بأنه عدو العقل والعلم بأنه : (لو كنت عدواً للعقل والعلم فهل كنت أفتح الجامعة؟ لوكنت هكذا عدواً للعلم ، فهل كنت أنشئ لفتياتنا اللواتي لا يختلطن بالرجال ، داراً للمعلمات؟!).
وقام بمحاربة سفور المرأة في الدولة العثمانية، وهاجم تسرب أخلاق الغرب، الى بعض النساء العثمانيات، ففي صحف استانبول في 3 اكتوبر 1883م ظهر بيان حكومي موجه الى الشعب يعكس وجهة نظر السلطان شخصياً في رداء المرأة.
يقول هذا البيان: (إن بعض النساء العثمانيات اللائي يخرجن الى الشوارع في الأوقات الأخيرة، يرتدين ملابس مخالفة للشرع. وإن السلطان قد ابلغ الحكومة بضرورة اتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على هذه الظاهرة. كما أبلغ السلطان الحكومة ايضاً بضرورة عودة النساء الى ارتداء الحجاب الشرعي الكامل بالنقاب إذا خرجن الى الشوارع). وبناءً على هذا فقد اجتمع مجلس الوزراء واتخذ القرارات التالية:
(تعطى مهلة شهر واحد يمنع بعده سير النساء في الشوارع إلا إذا ارتدين الحجاب الاسلامي القديم. وينبغي أن يكون هذا الحجاب خالياً من كل زينة ومن كل تطريز.
( يُلغى ارتداء النساء النقاب المصنوع من القماش الخفيف أو الشفاف. وبالتالي ضرورة العودة الى النقاب الشرعي الذي لايبين خطوط الوجه.
( على الشرطة -بعد مضي شهر على نشر هذا البيان- ضمان تطبيق ماجاء فيه من قرارات بشكل حاسم، وعلى قوات الضبطية التعاون مع الشرطة في هذا.
( صدّق السلطان على هذا البيان بقراراته الحكومية.
( ينشر هذا البيان في الصحف ويعلق في الشوارع).
وفي اليوم التالي لنشر هذا البيان ، أي في 4 أكتوبر قالت جريدة (وَقِتْ) الصادرة في استانبول : (إن المجتمع العثماني عموماً يصوِّب هذا القرار ويراه نافعاً).
وكان السلطان عبدالحميد يرى : (أن المرأة لا تتساوى مع الرجل من حيث القوامة) ويقول: (مادام القرآن يقول بهذا، فالمسألة منتهية ولا داعي للتحدث عن مساواة المرأة بالرجل).
ويرى : (إن فكرة هذه المساواة إنما جاءت من الغرب).
لقد كان السلطان عبدالحميد مع تعليم المرأة ولذلك أنشأ داراً للمعلمات، لتخريج معلمات للبنات كما كان ضد الاختلاط بين الرجل والمرأة وضد سفور المرأة ولم يكن في عهده للمرأة رأي في شؤون الدولة مهما كانت هذه
الشؤون وإنما دور المرأة في البيت وتربية الأجيال وكان يعامل المرأة معاملة كريمة نادرة فهذه زوجة أبيه التي احتضنته وقامت بتربيته، عندما تولى السلطان العرش ، أعلن زوجة ابيه التي ربته (والدة السلطان) بمعنى الملكة في المفهوم الحديث. وكانت الملكة في القصر العثماني ، هي أم السلطان وليست زوجته كما في الدول الأخرى.
التعليم وإنشاء المدارس
مدرسة العشائر
أنشأ السلطان عبدالحميد في استانبول ، باعتبارها مقر الخلافة ومركز السلطنة (مدرسة العشائر العربية) من أجل تعليم وإعداد أولاً العشائر العربية، من ولايات حلب، وسورية ، وبغداد، والبصرة، والموصل، وديار بكر، وطرابلس الغرب واليمن، والحجاز، وبنغازي والقدس، ودير الزور.
وكانت مدة الدراسة في مدرسة العشائر العربية في استانبول خمس سنوات، وهي داخلية، تتكفل الدولة العثمانية بكل مصاريف الطلاب، ولكل طالب "إجازة صلة الرحم" وهي إجازة مرة كل سنتين. وسفر الطالب فيها على نفقة الدولة:
وكان المتخرجون من هذه المدرسة ، يدخلون المدارس العسكرية العالية. ويحصلون بعد ذلك على رتب عالية. كما يمكنهم كذلك أن يدخلوا المدرسة المُلكية -وهي مدنية- يدرسون فيها سنة ويحصلون بعدها على رتبة قائمقام، ثم يعودون الى بلادهم.
كما أنشأ السلطان عبدالحميد (معهد تدريب الوعاظ والمرشدين) أقيم لإعداد الدعاة للدعوة الاسلامية، وللجامعة الاسلامية ثم يتخرجون فينطلقون الى مختلف أرجاء العالم الاسلامي يدعون للاسلام، ويدعون للخلافة، ويدعون للجامعة الاسلامية.
ولقد كانت نظرة السلطان عبدالحميد بعيدة وثاقبة ولذلك اهتم بمسلمين الصين.
خرجت الصحافة في استانبول ، بخبر مفاده أن عدد من مسلمي الصين متحمسون ، يحبون العلم ويرغبون الاستفادة من المعارف الاسلامية، وأن لديهم مؤسسات تعليمية ومدارس، وأن في بكين وحدها ثمانية وثلاثين مسجداً
وجامعاً، يؤدي المسلمون فيها الصلاة، ويدعون فيها للخليفة المسلمين السلطان عبدالحميد الثاني ، وأن خطبة الجمعة في مساجد وجوامع بكين تُقرأ باللغة العربية، ثم تترجم الى اللغة الصينية، وأن الدعاء للسلطان عبدالحميد بصفته خليفة المسلمين لا يقتصر على بكين فقط، بل ويمتد الى كل مساجد الصين وجوامعها.
وتأسست في بكين - عاصمة الصين- جامعة أطلق عليها المسلمون الصينيون اسم (دار العلوم الحميدية) نسبة الى السلطان الخليفة عبدالحميد الثاني، أو بتعبير السفير الفرنسي في استانبول اسم (الجامعة الحميدية في بكين) وذلك في تقرير له الى وزارة خارجيته في باريس.
وقد حضر افتتاح هذه الجامعة ، الآلاف من المسلمين الصينيين. وحضره ايضاً مفتي المسلمين في بكين ، والكثير من علماء المسلمين هناك.
وفي مراسم الافتتاح ، ألقيت الخطبة باللغة العربية، ودعا الخطيب للسلطان الخليفة عبدالحميد. وقام مفتي بكين بترجمة الخطبة والدعاء الى اللغة الصينية. و(بكى أغلب المسلمين الحاضرين بكاءً حاراً بدافع فرحتهم) و(إن مسلمي الصين مترابطون فيما بينهم ترابطاً واضحاً برباط الدين المتين.
خط سكة حديد الحجاز
هذا المشروع منذ انطلاقته يعد من أكبر منجزات الدولة العثمانية عامة والسلطان عبد الحميد الثاني ـ 1239-1327هـ خاصة .
عمل السلطان عبدالحميد على كسب الشعوب الاسلامية عن طريق الاهتمام بكل مؤسساتها الدينية والعلمية والتبرع لها بالأموال والمنح ورصد المبالغ الطائلة لاصلاح الحرمين وترميم المساجد وزخرفتها وأخذ السلطان يستميل إليه مسلمين العرب بكل الوسائل فكون له من العرب حرساً خاصاً وعين بعض الموالين له منهم في وظائف كبرى منهم (عزت باشا العابد) -من أهل الشام- الذي نجح في أن ينال أكبر حظوة عند السلطان عبدالحميد وأصبح مستشاره في الشؤون العربية. وقد لعب دوراً هاماً في مشروع سكة حديد الحجاز الممتدة من دمشق الى المدينة المنورة وهو بهذا المشروع الذي اعتبره السلطان عبدالحميد وسيلة من والسائل التي أدت لأعلاء شأن الخلافة ونشر فكرة الجامعة الاسلامية.
وأبدى السلطان عبدالحميد اهتماماً بالغاً بإنشاء الخطوط الحديدية في مختلف أنحاء الدولة العثمانية مستهدفاً من ورائها تحقيق ثلاثة أغراض هي:
ربط أجزاء الدولة المتباعدة مما ساعد على نجاح فكرة الوحدة العثمانية والجامعة الاسلامية والسيطرة الكاملة على الولايات التي تتطلب تقوية قبضة الدولة عليها.
إجبار تلك الولايات على الاندماج في الدولة والخضوع للقوانين العسكرية التي تنص على وجوب الاشتراك في الدفاع عن الخلافة بتقديم المال والرجال.
تسهيل مهمة الدفاع عن الدولة في أية جبهة من الجبهات التي تتعرض للعدوان لأن مد الخطوط الحديدية ساعد على سرعة توزيع القوات العثمانية وإيصالها الى الجبهات.
وكانت سكك حديد الحجاز من أهم الخطوط الحديدية التي أنشأت في عهد السلطان عبدالحميد ففي سنة 1900م بدأ بتشييد خط حديدي من دمشق الى المدينة للاستعاضة به عن طريق القوافل الذي كان يستغرق من المسافرين حوالي
أربعين يوماً، وطريق البحر الذي يستغرق حوالي أثنى عشر يوماً من ساحل الشام الى الحجاز، وكان يستغرق من المسافرين أربعة أو خمسة أيام على الأكثر ولم يكن الغرض من إنشاء هذا الخط مجرد خدمة حجاج بيت الله الحرام وتسهيل وصولهم الى مكة والمدينة وإنما كان السلطان عبدالحميد يرمي من ورائه أيضاً الى أهداف سياسية وعسكرية فمن الناحية السياسية خلق المشروع في أنحاء العالم الاسلامي حماسة دينية كبيرة إذ نشر السلطان على المسلمين في كافة أنحاء الأرض بياناً يناشدهم فيه المساهمة بالتبرع لانشاء هذا الخط، وقد افتتح السلطان عبدالحميد قائمة التبرعات بمبلغ (خمسين الف ذهباً عثمانياً من جيبه الخاص) وتقرر دفع (مائة ألف) ذهب عثماني من صندوق المنافع، وأسست الجمعيات الخيرية وتسابق المسلمون من كل جهة للإعانة على إنشائها بالأنفس والأموال).
إيصال تبرع عثماني خاص بدعم خط سكة حديد الحجاز عام 1902 م في عهد السلطان العثماني عبدالحميد الثاني
وتبرع للمشروع الشخصيات الهامة في الدولة ، مثل الصدر الأعظم ووزير الحربية (حسين باشا) ووزير التجارة والأشغال (ذهني باشا)، ورئيس لجنة المشروعات (عزت باشا).
وتبارى موظفو الشركات في التبرع، مثل موظفي شركة البواخر العثمانية. وكذلك موظفو الدولة العموميين، والولايات مثل ولاية بيروت ودمشق وحلب وبورصة وغيرها.
وشارك القصر الحاكم في مصر، في حملة التبرعات، وشكلت في مصر لجنة الدعاية للمشروع وجمع التبرعات له برئاسة (أحمد باشا المنشاوي). كما شاركت الصحافة المصرية في حملة سكة حديد الحجاز بحماس ومثال على ذلك
جريدة المؤيد. وجمعت جريدة (اللواء) المصرية تبرعات للمشروع بلغت -حتى عام 1904م- ثلاثة آلاف ليرة عثمانية. وكان يرأسها مصطفى كامل باشا، كما جمع (علي كامل) مبلغ (2000) ليرة عثمانية للمشروع حتى عام 1901م.
وأسهم في هذه الحملة ، جريدة (المنار) وجريدة (الرائد المصري) وشكلت لجان تبرع للمشروع في كل من القاهرة والاسكندرية وغيرهما من مدن مصر.
وكان مسلموا الهند أكثر مسلمي العالم حماساً وعاطفة وتبرعاً للمشروع. وقد تبرع أمير حيدر أباد بالهند بإنشاء محطة المدينة المنورة في المشروع كما تبرع شاه إيران بملبغ (50.000) ليرة عثمانية.
ورغم احتياج المشروع لبعض الفنيين الأجانب في إقامة الجسور والأنفاق، فإنهم لم يستخدموا إلا إذا اشتدت الحاجة إليهم، مع العلم بأن الأجانب لم يشتركوا إطلاقاً في المشروع، ابتداءً من محطة الأخضر -على بعد 760 كليومتراً جنوب دمشق- وحتى نهاية المشروع. ذلك لأن لجنة المشروع استغنت عنهم واستبدلتهم بفنيين مصريين.
وقد وصف السفير البريطاني في القسطنطينية في تقريره السنوي العام 1907م أهمية الخط الحجازي فقال: (إن بين حوادث السنوات العشر الأخيرة عناصر بارزة في الموقف السياسي العام، أهمها خطة السلطان الماهرة التي استطاع أن يظهر بها أمام ثلاثمائة مليون من المسلمين في ثوب الخليفة الذي هو الرئيس
الوحي للمسلمين ، وأن يقيم لهم البرهان على قوة شعوره الديني وغيرته الدينية، ببناء سكة حديد الحجاز التي ستمهد الطريق في القريب العاجل أمام كل مسلم للقيام بفريضة الحج الى الأماكن المقدسة في مكة والمدينة).
محطة قطارات حيفا
فلا غرور إذا ما لمسنا حنق الانكليز على ذلك الخط الحديدي وافتعالهم الأزمات لإعاقته، وانتهازهم أول فرصة لتعطيله ونسفه. لقطع الطريق على القوات العثمانية.
وكان أول قطار قد وصل الى محطة سكة الحديد في المدينة المنورة من دمشق الشام يوم 22 آب (أغسطس) 1908م وكان بمثابة تحقيق حلم من الأحلام بالنسبة لمئات الملايين من المسلمين في أنحاء العالم كافة، فقد اختصر القطار في
رحلته التي استغرقت ثلاثة أيام وقطع فيها 814 ميلاً مشقات رحلة كانت تستغرق في السابق اكثر من خمسة أسابيع كما خفقت في ذلك اليوم التاريخي قلوب أولئك الذين كانوا مشتاقين الى القيام بأداء فريضة الحج المقدسة.
وصول الحجاج الى القدس من المدينة المنوره بتاريخ 24/12/1914
كانت سياسة السلطان عبدالحميد الاسلامية محضة، فاراد أن يجمع قلوب المسلمين حواليه باعتباره خليفة المسلمين جميعاً فكان مد خط السكة الحديدي بين الشام والحجاز من الوسائل الجميلة في تحقيق هدفه المنشود.
.... تابع
مع تحيات مدير الملتقى
الأستاذ مصطفى دعمس