بقلم : سناء محمد عوايشة
عندما تتمتّع بصحّة نفسيّة جيّدة ، وتمارس عملك بحيويّة ونشاط ، وتتميّز بهمّتك العالية ، و تتجنّد في خدمة وطنك ، وتحرص على حفظ أمنه وأمانه ، وتسخّر طاقاتك ومواهبك لأجله .... فاعلم إنما ذلك لأنك تعيش مكرّماً ، معزّزاً ، محترماً من قِبل مجتمعك .
وكذلك المعلم عندما يخرج مبكّراً من بيته ، متشوّقاً لطلابه ، الذين يستبشرون بابتسامته المتألّقة كل يوم في الطابور الصباحي ؛ يشحذ فيهم الهمم لنيْل العلم ، والأخذ بأيديهم نحو الإبداع ، ورفع شأن الوطن ، وخدمة المجتمع ، يدعم المتفوّق ، ويساعد الضعيف ، ويقف إلى جانب المحزون ، فإنما ذلك لأنه يحيا الحياة الكريمة التي تليق به و برسالته الجليلة .
أمّا إذا ضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وأثقلت كاهله الديون ، وأغلقت القوانين والإجراءات اليومية بوابة السجن عليه ، ليقبع في سجن اسمه همّ البحث عن لقمة العيش ، و ليس في ذهنه سوى قوت عياله ، فإنه سينسى الرسالة التي من أجلها وُجد ، و ينحدر مستوى التعليم الذي يمضي فيه ، و سنرى بعد ذلك أسوأ الصور في الحياة الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية ، إذ كيف لعطائه أن يظهر ، والعقل مأسور بقيود التبعية و الاستعباد ، والمواهب موءودة بفعل سكين عدم العدل و التقدير ، والطاقات مهدورة بعد ضياع الكرامة !
هذا المعلم هو الذي يصنع الطبيب والمحامي والمهندس والوزير و ... ، والذي يقدّم لأمّته ووطنه كل خير و كل نافع في سبيل تقدّمه وازدهاره و تطوره وحضارته ، وهو من يرعى طلابه ليكون منهم القيادات ، و يتسلّم بعضهم زمام المسئولية في هذا الوطن ، و يتخرّج من بين يديه الجنديّ الذي يحمي الوطن بعلمه و سلاحه ، وكذلك العامل الذي يبني و يعمّر سواء كان مزارعاً ، نجاراً ، حارساً ، ..... وهكذا سائر المهن فكلها تخرج من تحت إبط المعلم ، لحريٌّ بنا أن نقف معه في كل ما يمسّ حياته ومهنته .
هذا المعلم الذي تربطه علاقة تاريخية وثيقة بكل أسرة في المجتمع ، ألا يستحق أن يعيش كريماً عزيزاً ؟ وهو حامل رسالة الأنبياء ، وصاحب الفضل في كل ما نرى من مظاهر الحضارة و التطور في جوانب الحياة المختلفة ، أليست هي من نتاج تعبه و جهده ؟ ألم يكن رقيّ المجتمع بأخلاقه و سلوكه أثراً من آثار تربية المعلم للأجيال ؟
إن المعادلة السليمة التي أفهم : أن المعلم هو نقطة ارتكاز للحياة الراقية الكريمة الشريفة للمجتمع بأسره ، فهو مثل القلب للجسد : " إلا وإنّ في الجسد مُضغة ، إذا صلُحت صلح الجسد كله وإذا فسُدت ، فسد الجسد كله . ألا وهي القلب " (صحيح مسلم ،1955) ،وقلب الحياة هو المعلم ،وجسدها المجتمع ، فسلامة المعلم و كرامته و عزّته و ارتفاع شأنه ستعود كلها على المجتمع بأسره ، و بقدر ما يتوفر للمعلم من امتيازات و يتمتع بحقوقه بقدر ما سيكون أثره إيجابيّاً على مهنته ، لذا فإن مطالبة المعلمين بالحصول على حقوقهم الطبيعية و المشروعة ، وإضرابهم عن العمل ، ووقوفهم بصمود في وجه الفساد و أهله إنما هو لمصلحة الوطن أولاً وأخيراً ، وهنا أعجب أشدّ العجب ممن يرى أن هذه المطالب فتنة ، وهل هناك فتنة أشد من قمع المعلم و ظلمه و سحْق قيمته وكرامته ؟! و أعجب أكثر من خطيب جمعة (مفَوّه!) وعلى شاشة رسمية للوطن ــ يُفترض أنها تتكلّم بلسان الشعب ، وتتحسّس آلامه ، وهمومه ــ ليخطب منفّراً الناس من المعلم و يقول : ( لازم يشوفوا العين الحمرا ) ، سبحان الله ! العين الحمرا لمن يا حضرة الخطيب !
والمعلم في الدول الراقية ــ ولا أقول الغنية ــ يتميّز بما لا يُمْنح للوزير ! فراتبه يفوق راتب الوزير بكثير ، و التفسير واضح ... و ليس المقصود ماديّاً فحسب بل يتجاوز إلى قيمته الاعتبارية ، وأهميته في مجتمعه ، فاليوم لا نريد شعْراً و لا شعارات ، و لا غزَلاً بالمعلم ، بل نريد وقوفاً إلى جانبه و مساندته ، ومحاورته باحترام ، والاستماع إليه ، و دعمه من الجميع لأن المعلم يمثّل أكبر شريحة في المجتمع ، ومساندته و مناصرته حتى نيل الحقوق واجبة ، و سيعود بالخير على الشعب كله بلا استثناء ، و أختم بقول الرسول صلى الله عليه و سلم " إن الله عز و جل و ملائكته ، و أهل السموات و الأرض ، حتى النملة في جحرها ، وحتى الحوت ، ليصلّون على معلّمِ الناسِ الخيرَ " (الألباني ، صحيح الجامع ،4213 ) .