yazanmnmd
عدد المساهمات : 32 تاريخ التسجيل : 16/11/2010
| موضوع: بعض ما ذكره الطنطاوي ..من مواقف العلماء الخميس أكتوبر 13, 2011 11:32 pm | |
|
بسم الله الرحمن الرحيم لو أن علماءنا داخلوا الشباب وخالطوهم ، واخذوا منهم وأعطوهم ، لوجدوا الكثرة منهم تجهل المعلوم من مبادئ الإسلام ، وتنكر المعروف من أحكامه ، ولو جدوا فيهم من لا يعرف إذا أراد الصلاة ، كيف يصلَّي ، وفيهم من لا يفرَّق بين كلام المشعوذين والدجَّالين ، ويضع ذلك كله في سطر واحد ، فيقرؤه جملة ، أو يطمسه جملة ، ثم لا يعمل بشيء منه ولا يراه لازماً له في حياته ، ولا مرافقه في غدواته وروحاته ، ولا يدخله في عداد الأمور الجديَّة التي يوليها عنايته ويجعل فيها همًّه ....[1]**** إن المرء تعتريه أحياناً حالات يحس فيها الإيمان ، ويستشعر الصلة بالله ، فيري كل كبير في الدنيا صغيراً ، وكل صعب سهلاً ، ولقد عبر عن ذلك سلطان العلماء لما سأله تلميذه الباجي كيف واجه الملك الأيوبي بما واجهه به ، لم ترعه عظمة موكبه ، ولا قوة جيشه ، ولا خشية بطشه ، فقال له تلك الكلمة الصادقة الباقية : ( يا بني ، تصورت هيبة الله فصار السلطان قدامي كالقط ) وما أنا من أمثال العز بن عبد السلام ، ولا أنا من العلماء الأعلام ، ولا من العباد الزهاد ، ولكن الله ـ كما تقول العامة ـ ( يضع سره في أضعف خلقه ). لقد تصورت والله ( ولا زال أذكر إلى الآن ما تصورت ) أن الموت قد نزل بي ، وأن القيامة قد قامت وأننا نقف جميعاً في المحشر ، وأن الوزير مثلي ، كلانا حاف عار لا يملك شيئاً ، ولا يقدر على شيء ، قد نادى المنادي : لمن الملك اليوم ؟ فكان الجواب : لله الواحد القهار . ولا تحسبوا أن هذا الشعور يلازمني دائماً . هيهات ! ولا أني كثيراً ما أحس به ، إنما هي نفحات نادرة تهب عليّ ، كان هذا الموقف واحداً منها . بدأ شيخنا المفتي الكلام ، وعرض لرواتب ( أرباب الشعائر ) فخفت أن يتحول المجلس عن غايته ، وأن ننتقل من المطالبة بإصلاح عام إلى مصلحة تكاد تكون شخصية ، فلم أملك إلا أن رفعت صوتي فقلت له : يا سيدي ما لهذا جئنا ، فقال الشيخ أبو اليسر : وهذا أيضاً مما جئنا له . وخشيت أن يفلت الأمر من يدي فالتفت إلى الحاضرين ، وكانوا نحواً من خمسين من كبار علماء سورية ، فقلت لهم : يا إخوان ألهذا جئتم ؟ فصاحوا قائلين : لا ، ما جئنا من أجل الرواتب ولكن جئنا مدافعين عن الدين وعن الأخلاق ومطالبين بالإصلاح . فسكت المفتي وأمسكت أنا بزمام الكلام .فقلت للوزير : هل تعلم سيادتك أننا لسنا هنا أحرار ، كل واحد منا مراقب ، يبعث إليه من يحصي عليه حركاته وسكناته ، فكيف نعيش مطمئنين آمنين أن لا تصيبنا جائحة ؟ حتى أنت ، إن معك اثنين يراقبانك ويرفعان عنك تقريراً بكل ما تقول أو تفعل . لما قلت هذا وجدت الحاضرين قد دهشوا ، حتى ظننتهم حسبوني جننت ، أو أني لم أعد ما أقول . ثم قلت له : وهذا التقرير لا يرفع إلى سيادة الرئيس ، بل إلى رب الرئيس ورب العالمين . يعلن على رؤوس الأشهاد يوم الميعاد ، يوم لا ينفع مال ولا بنون ، ولا وزارة ولا رياسة . فأرجو أن لا تهيئ جواباً يرضينا الآن ، بل تعد الجواب لرب الأرباب يوم الحساب . لم أقلها بلساني كما أقولها الآن ، بل نطق بها قلبي وإيماني . وسرت في جو المجلس كهرباء الإيمان ، وإن أكن أنا مطلقها فإن مدخرتي ( أي بطاريتي ) صغيرة ، إن قيست بأمثالها مما عند الحاضرين . وما ظنك بأمثال الشيخ محمد الحامد ، والشيخ أبي غدة ، والشيخ العاني ، والسيد المكي الكتاني ، ومن لا أذكر اسمه ولكن الله يذكره ويشكره . إن ذاكرتي بصرية فكأنني حين أكتب هذا الكلام أتصور المجلس الكبير الذي كنا فيه وفي الزاوية التي كان فيها المفتي ، وفي المقابلة لها الوزير ، وكأنني أرى المشايخ وهم يتكلمون من أماكنهم . وكانت جلسة روحية إيمانية ، وسأل الوزير أحد الإخوة المصريين ممن كانوا يعملون في سوريا عن بعض ما قلت ، فدنا من أذنه يسارّه ، فخفت أن يلقي فيها ما يفسد به علينا ما جئنا له ، فقلت له جهراً : يا سيادة الوزير ، لا تسمع منه ، إنه صديقي ، ولكنه هو وأمثاله يغشونك ويغشون سيادة الرئيس . الشعب هنا ناقم ، والأمة تغلي غضباً لله وللأخلاق ، وهؤلاء يكذبون عليكم ، ويكتمون ذلك عنكم . فأصابه هو ومن معه من هذا الكلام الذهول ، لم يعد يدري معه ماذا يقول . ومرت ساعتان وعشر دقائق وهمّ الوزير بالقيام والإنصراف لأن عنده موعداً أحسب أنه في رياسة رعاية الشباب . فصاح به السيد مكي : أتذهب إلى من كل همه اللعب ، وتدع علماء المسلمين ، الذين جاؤوا يحفظون عليك دينك وآخرتك ، اقعد ! فقعد . وأشهد أني قلما رأيت مثل السيد مكي الكتاني ، رحمه الله ، في عزة نفسه ، وجرأته على الحكام وقوة تأثيره عليهم .وذهبنا إلى دارنا بعد انقضاء الاجتماع مع بعض من كان حاضراً ، وأذكر أن منهم الأستاذ الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ، وانه قال لي كلاماً خجلت منه لأنه أعطاني فيه ما لا أستحقه ، ولكنه كان دافعاً لي إلى الأمام . ومشى خبر هذه المقابلة بين الناس ، ونسبوا إليّ مناقب ليست لي ، ومنحوني ألقاباً أتمنى أن أكون أهلاً لعشرها ، ولكن الشر بقي ماشياً في طريقه ، ما بدل الطريق ، ولا خفف السرعة ، ولا خشي أهله العواقب . والمصيبة أن جمهور الناس ما لهم لسان ، وأن أكثر أهل اللسان والأقلام الذين يسمع قولهم وتقرأ كتابتهم من الصحافيين والسياسيين ، لا يعبر أكثرهم عن إرادة الأمة ، ولا يصدر عن رأيها . وليس الذي يقولونه ويكتبونه هو الذي يصور حالها ، ويعرض حقيقتها ، ولطالما مرت بنا أيام كان البلد الذي نعيش فيه يتزلزل بالمظاهرات ، وتشتعل فيه النار ، ويموت فيه الناس ويجرحون ، ويمنع فيه التجول ، ثم نقرأ في التقرير الرسمي ، أو نسمع في الإذاعة الحكومية ، أن الأمن شامل ، والسكينة عامة ، والناس كلهم بخير [2] جاءني المفتي وهو أقرب الموظفين إلى القاضي ، عرفاً وقانوناً ، وكان مفتي دوماً في ذلك الوقت ـ قبل ثلاث وأربعين سنة ـ رجلاً شبه جاهل ، وكان ممالئاً للفرنسيين ، غارقاً في العصبيات المحلية ، وكان يخطب في الجامع الكبير فكرهه الناس ، حتى اضطروا إدارة الأوقاف ـ ولم تكن قد صارت وزارة ـ إلى ربط الخطبة بغيره . أذكر أنه دخل مرة فصعد المنبر ، فلما رآه المصلون حملوا أحذيتهم وخرجوا يبتدرون المساجد ، يفتشون عن مسجد آخر يصلون فيه ، ولم يبق منهم أحد . كانت في الناس يقظة وكانوا يعرفون كيف يظهرون الرضا عن الصالح ، والنقمة على الطالح ، وهذا من أسباب صلاح الحال .[3]**** إن لم يفعلوا ـ أي العلماء ـ فَليعلموا أنه سيأتي يوم قريب لا يبقى فيه من يدري ما هو الإسلام ، ويكون حالنا كحال ذلك الجندي التركي الذي لحق في المعركة بلغارياً ، فلما تمكن منه ووضع سنان البندقية على عنقه ، قال له : أمان أنا في عرضك . فقال : له أسلم ! فوجد البلغاري الفرج ، وقال : إني أسلم فماذا أقول ؟ فتحيّر التركي وقال ( بِِلمام والله ) أي لست أدري !! [4]**** وهذه الطبقة من العلماء التجار ، ومن طلبة العلم الكبار ، كان عندنا في الشام كثير من رجالها . أذكر منهم الشيخ هاشم الخطيب والشيخ موسى الطويل والسيد شريف النص والشيخ أحمد القشلان والشيخ عبد العزيز الخطيب وآخرهم ، ويكاد يكون أجل أو من أجل من عرفت منهم ، الشيخ صالح العقّاد . ومن قرأ كتاب " صناعات الأشراف " ، وعهدي بقراءته بعيد جداً ، فلا أذكر الآن منه شيئاً ، ومن تتبع أخبار أهل التجارة والصناعة من الأعيان والعلماء في كتب الأدب ، وجد منهم جماعة لا تحصى كثرة : من الصحابة ومن التابعين ، ومن الأئمة المتبوعين ، كأبي بكر ، وعثمان ، وعبد الرحمن ، وعمرو بن العاص الذي كان ـ كما أذكر ـ جزاراً ، كما كان عمر بن الخطاب سمساراً ، ومن التابعين سعيد بن المسيب الذي كان يتجر بالزيت ، وأبو حنيفة وهو بزاز ( تاجر قماش ) ، وله دائرة مالية توزع رواتب شهرية على كثير من فقراء العلماء ، والليث بن سعد الذي شهد له الشافعي ، وحسبكم به شاهداً ، بأنه أفقه من مالك ، ولكن أصحابه لم يقوموا به ، والذي كان دخله الصافي ثمانين ألف دينار من الذهب في السنة ، ولم تجب الزكاة عليه زكاة قط ، لأنه لا يستبقي منها ما يحول عليه الحول ، وعبدالله بن المبارك .[5] **** كان من الصحابة ، ومن التابعين ، وكان من الأئمة المتبوعين من هو غني يكاد يحسب في عرف اليوم في أصحاب الملايين ، ومن هو فقير لا يكاد يجد الفلوس ( والملاليم ) . ولكن مال الأول في يده لا في قلبه . لا يفرح بما زاد فيه ، ولا يأسى على ما فاته منه ، وكان فقر الثاني في يده لا في قلبه ، فحاله حال فقير ونفسه نفس ملك .[6]**** وكان ـ معروف الأرنؤوط ـ له مع الحكام أسلوب عجيب ... دخل مرة على واحد من رؤساء الوزارات ( أعرفه ) كان من عادته أنه يفتح بابه لأصحاب الحاجات ، فيسمع منهم ثم يأخذ الهاتف فيكلم الموظف ( المختص ) يقول له : آلو ، أنا مرسل إليك فلاناً فاقض حاجته حالاً وكان هذا الهاتف مقطوع الشريط . فدخل عليه معروف بعد أيام ومعه كيس قدمه إليه ، فوجد فيه الرئيس قطعة شريط . قال : ما هذا ؟ فقال : مولانا ، العفو ، جئتك بهذه القطعة لتصل بها شريط هاتفك لأنه مقطوع على ما يظهر . فضحك وكلم له الموظف بالهاتف الثاني . وكان الرؤساء يدعون أصحاب الصحف ، فيوزعون عليهم مبالغ من المال ، ليكتبوا لهم ما يريدون أو يريد أسيادهم ( المنتدبون ) ، فاستقل معروف مرة المبلغ ، وجعل يساوم يطلب أكثر منه . فقال له الرئيس : ما هذا ، هل هي قضية بيع وشراء ؟ . قال : نعم . إننا نبيعك ضمائرنا .يبيعون ضمائرهم ! فيا ما أرخص الضمائر في سوق النفاق .[7]**** لما أحتل الفرنسيون جامع تنكز ، وجعلوه مدرسة عسكرية ، ذهب الشيخ ـ أي بدر الدين ـ ووراءه تلامذته ، والأمة من وراء تلاميذه ، ذهب بشيخوخته وخطوه البطيء حتى دخل الباب ، فلم يستطع الجندي الحارس أن يمنعه ، مع أن سلاحه بيده ، بل خبّر رؤساءه . فلما جاء منهم من جاء لم يجدوا غازياً مقتحماً ليردوه ولا محارباً مسلحاً لينازلوه ، بل وجدوا شيخاً كبيراً مشرق الوجه ، نوراني الجبين ، مضيء الشيبة ، خفيض الصوت ، قليل الكلام ، فلما سألوه ماذا يريد ؟ قال الترجمان : يابه ( وكانت كلمته هذه يخاطب بها الصغير والكبير ) قل له : هذا مسجد ، والمساجد للصلاة ، وقد جئنا نصلي فيه ، فكم يكفيكم من الأيام لتخلوه لنا ؟ . وأخلي وعاد مسجداً كما كان . كانت له هذه المنزلة لما كان العلماء هم قادة الأمة ، تسير وراءهم وتأتمر بأمرهم . كلما نزلت بها نازلة ، أسرعت إليهم لتسألهم رأيهم ، لأنها تعلم أنهم لا يرون لها إلاّ ما يوافق الشرع ، ويرضي الله . كانت للعلماء هذه المنزلة لما كانوا يريدون الله والدار الآخرة . ما كانت الدنيا أكبر همهم ولا منتهى علمهم . ماتت في نفوسهم شهوة الجاه في الدنيا ، فأعطاهم الله الجاه كله في الدنيا ، وأرادوا رضى الله ولو بما يسخط الناس ، فرضي الله عنهم وأرضى عنهم الناس ، وابتعدوا عن أبواب الحكام ، وزهدوا في ما بأيديهم ، فسعى إلى أبوابهم الحكام وعرضوا عليهم كل ما في أيديهم . لم يكن يرى أحدهم في الطاغية الجبار الذي يرتجف الناس خوفاً منه ومن بطشه ، لم يكن أحدهم يرى فيه إلاّ بشراً مثله ، سيقوم غداً معه يوم الحساب ، بين يدي رب الأرباب ، فلا يقول له إلاّ كلمة الحق يصدع بها ، ولكن في أدب ، فإذا رآه الجبار العاتي وسمع منه ، رأى فيه سلطان الشرع ، فصغر أمامه . أذكروا موقف عز الدين بن عبد السلام مع الملك الأشرف ثم الملك الصالح . أذكروا موقف ابن تيمية مع ملك التتار ، أذكروا موقف منذر بن سعيد مع الناصر الأموي ، باني الزهراء ، أول من تسمى بأمير المؤمنين في الأندلس ، الذي كان أعظم ملوك أوروبا في عصره . أذكروا موقف بكار بن قتيبة ، قاضي مصر مع ابن طولون . أذكروا موقف النووي مع الظاهر بيبرس . أذكروا موقف المفتي زمبيلي علي أفندي مع السلطان سليم المخيف الجبار . أذكروا سفيان الثوري مع المهدي ، أذكروا موقف الشيخ سعيد الحلبي مع إبراهيم باشا . تلك كانت مواقف العلماء ، لذلك كان الحكام الجبارون يصغرون أمامهم .[8] **** وللشيخ شريف في شدته نوادر عجيبة أسوق واحدة منها : جاءه مرة والد أحد التلاميذ يطلبه لضرورة ، فأبى الشيخ أن يخرجه حتى ينتهي الدرس ، فاحتج الأب وسخط ورفع صوته ، وقال : لقد أخرجت ولدي من المدرسة فما شأنك به ؟ وكان الوالد تلميذاً قديماً للشيخ ، وكان تاجراً له دكان عند باب المدرسة ، فلم يمنع الشيخ شريف كبر سن هذا الوالد ولا أنه صار تاجراً موسراً ، ولا أنه صار أباً لأولاد ، لم يمنعه ذلك أن يأمر بإلقائه على الأرض ، وأن يضع رجليه على الفلق ، وأن يضربه أمام التلاميذ .[9] **** حتى أن الأستاذ المودودي ـ رحمه الله ـ حدثني عن رجل هندوسي تاجر كان يعامل المسلمين هناك ويعاملونه ، فكان خصام بينه وبين أحد التجار المسلمين . فأعلن في المسجد أن فلاناً ( أي الهندوسي ) وهابي ، فقاطعوه حتى اختلت تجارته ، ولم يخلصه إلا أن أرضى التاجر المسلم ، فجاء المسجد فأعلن أنه تاب من الوهابية ورجع إلى بوذيته ، فرجعوا إلى معاملته ، وقد رويت هذه القصة في كتابي ( محمد بن عبد الوهاب ) المطبوع سنة 1381هـ .[10] **** وهاك القاضي الجرجاني مؤلف ( الوساطة ) على بن عبد العزيز الفقيه الشافعي ، الذي ذكره الشيرازي في طبقات الفقهاء صاحب الأبيات المعلمة المشهورة : يقولون : لي فيك انقباض ، وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل احجما أرى الناس من داناهم هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أكرما وما كل برق لاح لي يستفزني ولا كل من لاقيت أرضاه منعما وإني إذا فاتني الأمر لم أبت أقلب طرفي إثره متذمما ولكنه إن جاء عفواً قبلته وإن مال لم أتبعه لولا وربما وأقبض خطوي عن أمور كثيرة إذا لم أنلها وافر العرض مكرما وأكرم نفسي أن أضاحك عابساً وأن أتلقى بالمديح مذمما ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما ولكن أهانوه فهان ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما أأشقي به غرساً وأجنيه ذلة ؟ إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما وياليت كل عالم ينقش هذه الأبيات في صدر مجلسه ، وعلى صفحة قلبه ، ويجعلها دستوره في حياته ، وإمامه في خلائقه ! [11]**** كان عمر بن عبد العزيز يقول في خلافته : لمجلس من عبيد الله لو كان حياً ، أحب إلي من الدنيا وما فيها . وأني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، تقول هذا مع شدة تحرَّيك وشدة تحفُّظك ؟ قال : أين يُذهب بكم ؟ والله إني لأعود برأيه ونصيحته ومشورته على بيت المال بألوف وألوف ؟[12]**** العلماء لو استكملوا أمرين لكانوا هم قادة الشعوب الإسلامية في كل قطر وفي كل زمان وهما : أن يكون عملهم لله لا للدنيا ولا للرياسة . وأن يدعوا هذا الخلاف بينهم على الفرعيات ، وأن يكونوا صفاً واحداً .[13] ( هدف العلماء ) هل يريد المشايخ أن يستلموا الحكم ؟ هل يريد المشايخ أن يحدثوا في البلد ثورة ؟ وأنا أؤكد لكم أنه ما دفع المشايخ إلى ما صنعوا أحد ، ولا يريدون سياسة ولا رياسة ، وما دفعهم إلى ما عملوا رغبة في منصب ولا في مال ، إنما دفعتهم إلى ذلك غيرتهم على دينهم ، والعهد الذي أخذه الله على أهل العلم أن يبينوه للناس ولا يكتموه . لا يريد المشايخ منكم شيئاً . إنما يريدون أن يحموكم من عذاب ربكم . وإنما يريدون أن تسلم لكم آخرتكم . إنما يريدون طهارة أبنائكم وبناتكم ، وطريقهم له بداية وله نهاية ، فبدايته الإخلاص ، ونهايته إطاعة الله وإعزاز دينه ،ونشر علومه ، وتعريف الناس به . وكل من مشى على هذا الطريق فهو منا وهو معنا . ونحن مع كل عامل مخلص للإسلام . ولقد أدركت عهداً كان العلماء فيه هم قادة الشعب ، وهم مرجعه في أمور دينه وفي أمور دنياه ، إن تردد الناس بين أمرين رجعوا إلى العالم فأرشدهم إلى أرضى الأمرين لله ، وأقربهما إلى رضاه . وإذا اختلف اثنان كان الحكم بينهما للعالم ، وإن دهم الناس أمر كان الفزع فيه إلى العالم . ولقد سمعتم مني في خطبة الاستسقاء من الإذاعة كيف كان الناس لما انقطع المطر ، واستمر الجفاف ، واحترق النبات يرجعون إلى الإمام النووي في دار الحديث ، فيدعو العلماء ويبين للناس ما ينبغي أن يصنعوا .[14] **** ( دور العلماء ) فتحت عيني على الدنيا والعلماء في بلدنا ،كما كانوا في أكثر بلاد الإسلام ، هم قادة الناس ، وإليهم مرجع أمرهم إن اعترضتهم مشكلة في دنياهم رجعوا إليهم في حلها ، وإن كانت مسألة في دينهم طلبوا منهم حكمها . لا كلمة فوق كلمتهم ، ولا رأي بعد رأيهم ، لأنهم صدقوا مع الله وذلوا بين يديه ، فأعزهم الله في الناس حتى صدقوهم ومشوا وراءهم . أرادوا الآخرة فأعطاهم الله الدنيا والآخرة . عهدنا شيخ العلماء في سوريا الشيخ بدر الدين الحسني ، يدخل عليه في غرفته الصغيرة في دار الحديث الأشرفية ، الباشوات والولاة أيام الأتراك ، والمفوضون والقواد والجنرالات أيام الفرنسيين ، فيخلعون نعالهم عند بابها ، ويقعدون بين يديه على بساطها ، ويستمعون إليه وينفذون ما يطلبه ، وما كان يطلب لنفسه شيئاً منهم ، بل كان يعظهم وينصحهم ، ويحثهم على ما فيه مصلحة الناس . ولما استولى الجيش على جامع تنكز الكبير ، وجعلوه في أيام الشريف فيصل بن الحسين مدرسة عسكرية ، ثم ورثه منهم الفرنسيين فأبقوه على حاله ، لم يحتج استرداده منهم إلا لمسيرة الشيخ إليه ووراءه تلامذته ، وعلى عاتقه ثقل الثمانين التي عاشها ، وفي صدره نور العلم والإيمان ، فما هي إلا أن دخله عليهم ، حتى خرجوا منه وأخلوه . ثم داخل طائفة من العلماء حب الدنيا ، وطلبوا حظوظ نفوسهم قبل طلب رضى ربهم ، فوكلهم الله إلى نفوسهم ، وتزاحموا على أبواب الحكام ، فصرف الله عنهم قلوب الناس . وبقيت طائفة على طريق الحق ، تطلب العلم لله ، وتؤدي فيه حق الله ، لكن الشر قوي من حولها ، وازداد أتباعه فشغلوا الناس بالعاجلة ولذاتها ، عن الآجلة ومكارهها ، وهؤلاء العلماء ثابتون على الحق ، ولكنهم يقيمون من حولهم جداراً من الكتب والحواشي ، ويعيشون في برج عاجي يتنفسون هواء هذا القرن ، وعقولهم وتفكيرهم في القرون المواضي . ومنهم من هو خرّاج ولاّج ، عارف بالدنيا وأهلها ، يدرك ظواهرها وبواطنها ، ولكنه يحرص على إرضاء الحكام ، وموافقة العوام ، وهذا لا يكاد يأتي منه خير . ومنهم من جمع خوف الله ، وجرأة القلب وطلاقة اللسان ، فنزل إلى الميدان ، يعلم الجاهل ، ويقوم المائل ، ويصلح الفاسد ، ويؤدي حق العلم عليه ، حين أخذ الله على العلماء أن يبلغوه ولا يكتمونه . ولما ابتلينا بالاحتلال ، كان الذين قادوا النضال ، وأوصلوا بلادهم إلى الاستقلال ، من هذه الطبقة من المشايخ والعلماء . الأمير عبد القادر الجزائري منهم ، وعبد الكريم الخطابي ، وعمر المختار والذين أيقظوا النوام في مصر والشام : جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ، والذي فتح للناس باب الجهاد في فلسطين عز الدين القسام ، وأمثال هؤلاء . وكنا كلما قام فينا حاكم لا نرضاه ، أو مر بنا عهد لا نحبه ، كان أول من يعمل على إزاحة هذا الحاكم ، وإنهاء هذا العهد هم علماء الدين وخطباء المساجد . وشباب الإسلام . نحن نخوض المعركة ، وغيرنا يأخذ المغانم .وإذا تكون كريهة ادعى لها وإذا يحاس الحيس يدعي جندب ثم كثرت الجنادب حتى لحست الحيس كله ، وحازت المآدب جميعها ، وأكلت ثمار الجهاد ، والذين جاهدوا ينظرون بعيونهم من بعيد . في كل يوم يقوى أنصار الباطل ويزيدون ، ويقل دعاة الحق ويضعفون ، وهذه سنة الله في الكون : الفساد أكثر انتشاراً من الصلاح ، حبة برتقال عفنة تفسد صندوق البرتقال ، ومريض واحد ينقل مرضه إلى مئات الأصحاء ، وهم لا ينقلون إليه صحتهم . وابتلينا بالفرنسيين يوم كانوا يعدون السابقين إلى الانطلاق والفسوق في أوروبا ، وكانت باريس مباءه المتع ، ودار اللذات يقصدها الناس لهذا من الآفاق وإن كانت فيها السوربون وكان فيها المجمع العلمي ، فمشى إلينا داؤهم ، وانتقلت إلينا العدوى منهم ، ولكن المرض لا تظهر آثاره من أول يوم ، بل الجسم بما أودع الله فيه من وسائل الدفاع يطاول المرض ويقاوم الداء ، فلما كان يوم الجلاء ، كانت مدة تفريخ الجرثومة قد انتهت ، وأيام الحمل بالمرض قد تمت ، فولد هذا المولود الخبيث الذي حدثتكم حديثه ، وجاء من بعده إخوة له وأخوات ، وكثروا وازدادوا ، كما يكثر نسل الشياطين و ( المكروبات ) حتى وصلنا إلى الذي أعرفه وتعرفون . ولكن تعالوا نحاسب أنفسنا ، ألا نحمل شيئاً من وزر هذا الداء ؟ ألم نذهب قوتنا فيما بيننا ؟ ألم ننس أعداء ديننا من الملحدين والمكفرين المتسمين بالمبشرين ، والفاسدين المفسدين ، وأذناب المستعمرين ؟ ألم ندعهم كلهم ونشتغل بمعارك يثيرها تارة ناس من الأعداء يلبسون ثياب الأصدقاء ، يدخلون بيننا ليفرقوا جمعنا ؟ ويثيرها ويبعثها تارة أتقياء صالحون ، ولكن في أبصارهم قصراً ، فلا يرون أبعد من مناخرهم ، وفي عقولهم نقصاً فلا يقدرون عواقب ما يفعلون ؟ كم من المجادلات والمناقشات ، كم كتب كم الرسائل والمقالات ، كم نشأ من الأحقاد والأضغان ، بسبب صلاة التراويح في الشام مثلاً : هل هي عشرون ركعة أم هي ثمان ؟ والصلاة على الرسول بعد الأذان ؟ والشيخ الذي كان يصدر رسائل " الإصابة " يصيب بها المسلمين وهم يردون بمثلها وبأشد منها عليه وعلى الصوفية والمتصوفين ؟ ومسائل من أمثالها ، لا حاجة إلى تعدادها ، لأن العقلاء يحيطون علماً بها ، والمغفلين يندفعون فيها ، والعداء يفرحون بها ويضحكون علينا بسببها ، ثم يضرمون نار الخرف عليها ، ينفخون فيها إن خمدت ، ويمدونها بالحطب إن ضعفت ، حتى أزحنا أنفسنا بأنفسنا عن مكان الصدارة ، وتخلينا بأيدينا عن موضع القيادة ، فصار أمر المدارس مثلاً ، وفيها بناتنا وأبناؤنا ، بأيد غير أيدينا ، يتولاها في بعض بلاد المسلمين من ليست غايته غايتنا ، ولا منهجه منهج ربنا ، ونفقاتها على الأحوال كلها منا .. فهل سمع سامع في الدنيا بأعجب من هذا ؟ الأولاد أولادنا والأموال أموالنا ، ونحن الكثرة الكاثرة من الأمة ، فعلام تنفق أموالنا ، على تكفير أولادنا ، وردهم خصوماً لنا ولديننا ولأخلاقنا وأعراضنا ؟ إنني حين أفكر في هذا ، وبما كان من تقصيرنا وتنازعنا ، حتى خرج الأمر من أيدينا ، أقول ، آه آه ، اقتلعها من قرارة القلب ، فتخرج ومعها لهب ودخان ، أسى وحزناً على هذا الذي كان .[15] **** وهو نموذج لطبقة عندنا من المشايخ ، إذا وقفت أمام الجهور تخطب في المساجد يكاد يذوب أفرادها من الخشوع لله ، ويتفجرون تارة من الغضب لله ، فإذا صاروا أمام الحكام كانوا مرآة لهم ، لا يرى الحكام فيها إلا ما تهوى أنفسهم وآلة مسجلة لا يسمعون منها إلا كلامهم ، يكرره هؤلاء ويعيدونه ويشرحون ويضعون له الحواشي . يقولون ما يرضي الحكام ويعظمهم ويطربهم ، وربما كان منهم ـ وقد تحققت من ذلك ـ من هو عين لهم علينا ، يدلهم على عوراتنا ، ويرشدهم إلى مواطن ضعفنا ، ويفشي لهم أسرارنا ، فإن جاءت فرصة لاح فيها شبح منفعة لأحدهم ، من مال يناله ، أو وظيفة يأخذها وثب عليها ، لم ينظر إلا إليها ولم يفكر إلا فيها ، ونسي ما كان يعظ به ويدعو إليه [16]**** مثل الحاج أمين الحسيني لا يُعرف به في مقالة ، لأنه أعرف من أن يعرف ، ولكني أذكر واقعة واحدة لعلها أدل عليه من مقالات . ولما كتب إميل لودفيغ الألماني اليهودي الذي كان هو وأندريه موروا الفرنسي أقدر من اشتغل في هذا العصر بتراجم الرجال ، لما كتب لودفيغ عن فولتير ما زاد على أن أخذ مشاهد من سيرته ، أحسبها كانت عشرة ، عرضها عرضاً ، وسردها سرداً ، وكم يعلق عليها بشيء ، لأنها تغني بسردها عن التعليق عليها . لما كثر المتكلمون على الحاج أمين بعد ضياع فلسطين واتهموه ـ بالحق أو بالباطل ـ بأنه هو والهيئة العربية العليا كانوا بتقصيرهم من أسباب هذا الضياع ، وكان عندي يوماً الأستاذ محمد كمال الخطيب وهو محام من أبرز العاملين في حقل الدعوة الإسلامية ، له لسان وله قلم ، ويملك الحجة والبلاغة التي يعرضها بها ، أراد أن يلقى الحاج أمين فأخذت له ولمن معه موعداً من الحاج أمين ، على أن يسمع منهم كل ما يقال عنه ، وأن يسمعوا منه ما يجيب به ، وكان الاجتماع كما أذكر في دار الشيخ موسى الطويل رحمه الله . وكانت داره مواجهة داري في المهاجرين في دمشق فذهب الأستاذ محمد وذهب معه الأستاذ زهير الشاويش صاحب المكتب الإسلامي وأخي ناجي ( وأنبه بالمناسبة إلى أنه يختلط الاسمان : اسم ناجي الطنطاوي ، الشيخ الذي كان قاضياً وهو مستشار شرعي في وزارة الحج والأوقاف هنا من إحدى وعشرين سنة ، وناجي الطنطاوي المذيع والممثل الشاب الذي يقيم أيضاً هنا ) . أقول إنهم ذهبوا إليه ، ولم أذهب معهم ، وأسمعوه كل ما يقال عنه ، وما يوجه من تهم إليه ، صرحوا به تصريحاً ، ما لوحوا تلويحاً ولا لمحوا تلميحاً ، وهو صامت لا تتحرك في وجهة عضلة ، مصغ إليهم ما أعرض عنهم ، ولا ضاق بهم كأنهم يقصون عليه قصة من قصص الأولين فهو يستمع إليها بلا انفعال ولا غضب . ومضت ساعة وربع الساعة ، حتى إذا انتهوا قال : هل بقي شيء ؟ قالوا : لا . وماذا بقي وهم ما أبقوا عليه ؟ قال : اسمعوا . وطفق يعيد التهم كما أوردوها ، ويرد عليها واحدة واحدة ، رداً منطقياً هادئاً ، مؤيداً بالبرهان ، مقوى بالدليل ، فخرجوا وهم يحملون العجب منه والإعجاب به وصاروا بعد ذلك معه وكانوا من قبل عليه . وكذلك يمتلك الكبار أعصابهم .[17] ولما قابل وفود العلماء رئيس الوزراء ، وأحسب أنه كان خالد بك العظم ، قال لهم إنه يحترمني ويقدرني ، ولكنه أنكر لفظاً بذيئاً لا يليق بي قد استعملته هو لفظ الديوث . فصرخ الشيخ عبد القادر العاني وكان جهير الصوت، حديد المزاج ، صداعاً بالحق : " لقد كفرت ، وحرمت عليك امرأتك ، إلا أن تجدد إسلامك . أتقول عن لفظ استعمله رسول الله وورد في الحديث أنه لفظ بذيء ؟ " يريد لفظ الديوث الذي ورد في حديث أخرجه الإمام أحمد والنسائي والحاكم وغيرهم ، فبهت ولم يجد بداً من الاعتذار .[18] [1] فصول إسلامية ص142[2] علي الطنطاوي ( ذكريات 5 / 296ـ 298 ) [3]علي الطنطاوي ( ذكريات 4 / 201 )[4] فصول إسلامية ص180 [5] علي الطنطاوي ( ذكريات 5 / 170 ـ 171 )[6] علي الطنطاوي ( ذكريات 5 / 172 ) [7] علي الطنطاوي ( ذكريات 2 / 11 ـ 12 ) [8] علي الطنطاوي ( ذكريات 3 / 215ـ 216 ) [9] علي الطنطاوي ( ذكريات 3 / 230 )[10] علي الطنطاوي ( ذكريات 3 / 56 )[11] علي الطنطاوي ( فكر ومباحث ) ص 38[12] علي الطنطاوي ( فكر ومباحث ) ص 34ـ 35[13] علي الطنطاوي ( ذكريات 7 / 155 ) [14] علي الطنطاوي ( ذكريات 6 / 23ـ 24 ) [15] علي الطنطاوي ( ذكريات 5 / 244ـ 247 )[16] علي الطنطاوي ( ذكريات 4 / 202 ) [17] علي الطنطاوي ( ذكريات 5 / 70 ـ 71 )[18] علي الطنطاوي ( ذكريات 5 / 110 ) | |
|
مصطفى دعمس المدير العام - الأستاذ مصطفى دعمس
عدد المساهمات : 1749 تاريخ التسجيل : 15/11/2010 العمر : 53 الموقع : منتدى المعلم مصطفى دعمس
| موضوع: رد: بعض ما ذكره الطنطاوي ..من مواقف العلماء الأربعاء أكتوبر 19, 2011 10:09 pm | |
| | |
|