قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون .
قالوا بأن الصوم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص.
أما صوم العموم: فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة.
أما صوم الخصوص: فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام.
أما صوم خصوص الخصوص: فصوم القلب عن الأمور الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله فهو اقبال بكامل الهمة على الله جل وتعالى وانصرافه عن غيره.
قال ابن رجب رحمه الله: الطبقة الثانية من الصائمين: من يصوم في الدنيا عما سوى الله، فيحفظ الرأس وما حوى، ويحفظ البطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا.
مثل هذا الصائم ليس عيده أول يوم من شوال، وانما عيده يوم لقاء ربه، وفرحته برؤيته.
أهل الخصوص من الصُوّام صومهم صون اللسان عن البهتان والكذب
والعارفون وأهل الأنس صومهم صون القلوب عن الأغيار والحجب
من صام عن شهواته أدركها غداً في الجنة، ومن صام عما سوى الله فعيده يوم لقائه، قال الله تعالى: من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت .
فيا معشر الصائمين: صوموا اليوم عن شهوات الهوى لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء، لا يطولن عليكم الأمل باستبطاء الأجل، فإن معظم نهار الصيام قد ذهب، وعيد اللقاء قد اقترب.
أيها الصائمون:-
إن تمام الصوم وكماله، وكلكم يطلب ذلك، لا يتم إلا بستة أمور:-
الأول: غض البصر وكفه عن الإتساع في النظر إلى كل ما يحرم ويذم ويكره.
قال الله تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن .
وعن جرير بن عبدالله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال: ((اصرف بصرك)) رواه مسلم.
فحذار ثم حذار أخي الصائم من فضول النظر، فضلاً عن النظر إلى شيطان العصر، الذي أخذ بلب العاقل قبل الساذج. وهو التلفاز.
لا تجرح يا أخي صومك، ولا تنقص من أجرك فليس هذا عمل من يطلب لصيامه التمام والكمال.
ماذا يعرض التلفاز؟ يكفي ما فيه من فتن المارقات الماجنات، السافرات العاصيات.
يكفي ما يُثار من غرائز في صدور الرجال. نظرات خائنة، وغمزات جائعة، وتكشف وعري، وتفسخ بذئ، ونزول إلى درجة البهيمية.
لواحظنا تجنى ولا علم عندها وأنفسنا مأخـوذة بالجرائـر
ولم أر أغبى من نفوس عفائف تصدق أخبار العيون الفواجر
ومن كانت الأجفان حُجّاب قلبه أذِنّ على أحشائه بالفواقــر
ماذا جنيت يا أخي الصائم في إطلاق نظرك في الصور المعروضة، هل زادت حسناتك، هل زاد إيمانك، هل تعلمت علماً يقربك إلى الجنة ويباعدك عن النار؟
أظن الجواب هو عكس ذلك كله، وأنت أدرى بنفسك من غيرك بك.
اتعظ يا أخي ببعض أخبار من مضى، وإليك هذا الخبر، قال أبو الأديان: كنت مع استاذي أبي بكر الدقاق، فمّر حدث فنظرت إليه، فرآني أستاذي وأنا أنظر إليه، فقال: يا بني لتجدّن غِبها ولو بعد حين. يقول: فبقيت عشرين سنة وأنا أراعي الغِبّ، فنمت ليلة وأنا متفكر فيه، فأصبحت وقد نسيت القرآن كله.
فهل تريد يا أخي أن تجد حسرة هذه النظرات ولو بعد حين، فتفقد شيء من إيمانك أو حسنتاك عند لقاء ربك، والسبب النظر في التلفاز.
فقل للناظرين إلى المشتهى في ديارهم، هذا أنموذج من دار قرارهم، فإن استعجل أطفال الهوى لمآلهم، فعدهم قرب الرحيل إلى ديارهم، قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم.
الثاني: حفظ اللسان عن فضول الكلام والهذيان والخوض في الباطل والمراء والجدال والخصومة والكذب والنميمة والفحش والمراء والسب وبذاءة اللسان، والسخرية والإستهزاء. وإلزامه السكوت والصمت وشغله بذكر الله وتلاوة القرآن، فهذا صوم اللسان.
من أطلق عذبة اللسان، وأهمله وأرخى له العنان، سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار، إلى أن يضطره إلى البوار، وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم.
قال محمد بن واسع لمالك بن دينار: يا أبا يحيى حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم.
تدبر يا عبدالله في قول الله تعالى: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد .
الكلام أربعة أقسام: قسم هو ضرر محض، وقسم هو نفع محض، وقسم هو ضرر ومنفعة، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة.
فأما الذي هو ضرر محض فلابد من السكوت عنه، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة.
وأما مالا منفعة فيه ولا ضرر فهو فضول، والإشتغال به تضييع زمان، وهو عين الخسران، فلا يبقى إلا القسم الرابع، وبذلك يكون سقط ثلاثة أرباع الكلام وبقي ربع، وهذا الربع فيه خطر إذ يمتزج بما فيه إثم من دقيق الرياء والتصنع، وتزكية النفس، وفضول الكلام، وفصل الخطاب قوله صلى الله عليه وسلم: ((من صمت نجا)).
روى البخاري في صحيحه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: ((كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُـنّـة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم)).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر)).
من هو هذا الرجل؟ وماذا فعل؟
قيل هو الذي يفطر على حرام، أو من يفطر على لحوم الناس بالغيبة أو من لا يحفظ جوارحه عن الآثام.
أما الفرض فقد سقط عنه، والذمة برأت، فلا يعاقب عقاب ترك العبادة، بل يعاتب أشد عتاب، حيث لم يرغب فيما عند ربه من الثواب.
الأمر الثالث: لمن طلب تمام الصيام.
كف السمع عن الإصغاء إلى كل محرم ومكروه.
فكل ما حرم قوله، حرم الإصغاء إليه، ولذلك سوى الله عز وجل بين المستمع وآكل السحت فقال تعالى: سماعون للكذب أكّالون للسحت .
وقال عز وجل: لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت .
اذا لم يكن في السمع من تصاون وفي بصري غض وفي منطقي صمتُ
فحظي إذاً من صومي الجوع والظما فإن قلت إني صمت يومي فما صمتُ
فيا من أطلق أذنه لسماع أصوات المزامير، وأصوات الغناء، اتق الله تعالى في نفسك، واتق الله في صومك، فليس هذا هو صوم الصالحين، وليس هذا من يطلب تمام صومه وكماله.
الأمر الرابع: كف بقية الجوارح عن الآثام.
كف اليد والرجل عن المكاره، وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار، والحرام سُمّ مهلك للدين، والحلال دواء ينفع قليله، ويضر كثيره، وقصد الصوم تقليله.
الأمر الخامس: أن لايستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار، بحيث يمتلئ جوفه، فما من وعاء أبغض إلى الله عز وجل من بطن ملئ من حلال.
وكيف يستفاد من الصوم، قهر عدو الله وكسر الشهوة، إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره، وربما يزيد عليه في ألوان الطعام حتى استمرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان، فيؤكل من الأطعمة فيه مالا يؤكل في عدة أشهر.
ورقة القلب وصفاؤه إنما تكون بترك الشبع، قال الجنيد: يجعل أحدهم بينه وبين صدره مخلاة من الطعام، ويريد أن يجد حلاوة المناجاة.
من أكل كثيراً نام كثيراً، فخسر كثيراً، وفي كثرة النوم ضياع العمر وفوت التهجد، وإن تهجد لم يجد حلاوة العبادة.
الأمر السادس: أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقاً بين الخوف والرجاء. اذ ليس يدري أيقبل صومه فهو من المقربين، أو يرد عليه فهو من الممقوتين. وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها.
مرّ الحسن البصري بقوم وهم يضحكون فقا :
إن الله عزوجل جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف قوم فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون، وخاب فيه المبطلون، أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
نسأل الله جل وتعالى أن يرحمنا برحمته.