في فترات المحن والغياب التاريخي تختلط المفاهيم، ليس لدى العوام وحدهم، وإنما لدى بعض المعنيين بعمليات الإصلاح المنشود من المربين والمعلمين والعلماء والخطباء وكذلك أولياء الأمور، ويضيع المقصد من القيمة الإنسانية والإسلامية في ردهات الجدال العقيم وتنقطع الغاية وتختلط بالوسيلة فيتوقف تبعًا لذلك العمل بها والاستفادة منها.
ويقع مصطلح "الأمة" في مقدمة جملة المفاهيم التي زيفت في المائتي سنة الأخيرة في التاريخ الحديث والمعاصر، ليتحول لمجرد لفظ نظري لا تنبني عليه أية مهام تذكر سواء تجاه ذاتها، أو تجاه غيرها.
وقد أولى كتاب الله عز وجل اهتمامًا كبيرًا لمفهوم الأمة، ووضع على عاتقها باعتبار أن الإسلام "دين جماعي" المهمة الأعظم في تبليغ الدعوة، وجعل مسئولية إنقاذ العالم من الوقوع في براثن "حكم الإنسان" بضعفه وشهواته وجموحه وغروره حين يتنكر لربوبية الله - عز وجل - في كونه.
ومع التكليف الضخم لتلك الأمة المختارة، منحها الله - عز وجل - صفة "الخيرية المشروطة" بالقيام بالمهمة وتأدية الرسالة.
فيقول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، ويقول سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]، ويقول تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء: 92، 93، 94].
ومن الآيات الكريمات نجد أن لفظ الأمة مرتبطٌ ارتباطًا مباشرًا بمفاهيم أخرى وهي: الوسطية، الشهادة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله.
مفهوم الأمة لغة واصطلاحا
أُمّة: (اسم)
الجمع: أُمَم
الأُمَّة: الوالدة
الأُمَّة: الجيل
الأُمَّة: الرجل الجامع لخصال الخير.
جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ تَجْمَعُهُمْ رَوَابِطُ تَارِيخِيَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ، قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَا هُوَ لُغَوِيٌّ أوْ دِينِيٌّ أوِ اقْتِصَادِيٌّ وَلَهُمْ أهْدَافٌ مُشْتَرَكَةٌ فِي العَقِيدَةِ أَوِ السِّيَاسَةِ أَوِ الاقْتِصَادِ الأُمَّةُ العَرَبِيَّةُ الأُمَّةُ الإسْلاَمِيَّةُ. [المصدر: معجم المعاني الجامع: معجم عربي عربي].
وقد ارتبط مصطلح الأمة بميلاد الأمة المحمدية ومع نزول القرآن الكريم؛ فهذا المصطلح غريب على العرب قبل الإسلام، وقد أولى الإسلام اهتمامًا كبيرًا بالأمة وتكوينها ونشأتها وصفاتها ومهمتها، كونه لا يقوم إلا على عاتقها، فيتميز المعنى الاصطلاحي للأمة في الإسلام عن غيره من الحضارات الأخرى التي ربطته بالقومية والذاتية والعنصرية.
ومن الآيات القرآنية التي ذكرناها يضع الله - عز وجل - المسلمين جميعًا ضمن إطار الأمة الشاملة، فكل مسلم يؤمن بوحدانية الله - عز وجل - وبنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - هو فرد ضمن تلك المجموعة التي تحمل صفة الأمة، وكل مسلم يتحرك في الأرض آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، هو ضمن هذه الأمة ولو كان في أقصى الغرب، وأخوه في أقصى الشرق، وكل صفة من صفات هذه الأمة يتحلى بها مسلم، فهو منها وهي منه، وبهذا المعنى يجتمع مفهوم الأمة على العديد من الأعراق طالما أنها اتفقت في مجموعة الصفات والمهمة والوسيلة والغاية؛ فالمسلم أخو المسلم ولو كان يحمل لقب عربي أو أفريقي أو آسيوي أو أوروبي أو غيره، فهو مسلم له كافة حقوق وواجبات المسلم.[size=33]وقد تجتمع صفات الأمة في فرد واحد وذلك حين يؤدي كل وظائف الأمة، وقد اجتمعت في الخليل إبراهيم - عليه السلام - فقال فيه ربه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120]؛ فالأمر إذًا يرتبط بالصفات والفعل، أكثر منه بالعدد والعتاد.[/size]
[size=33]وقد تغير مفهوم الأمة منذ موقعة صفين حين حدث الانقسام الأول، والصراع الأول، والسقوط الدموي الأول في تاريخها، فخرجت الخلافة من مدينة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لتترك خلفها القيم الروحية التي صنعت من البداوة حضارة، ومن السادة والعبيد أخوة تعلو على آصرة الدم، لتولد قيمٌ جديدةٌ تحمل بعض عنصرية وقبلية العرب مع منشأ الدولة الأموية وخاصة بعد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وأما ما تشهده الأمة الإسلامية في عصرنا هذا، فهو رغم حالة التشرذم والانفصال والزيف، إلا أنني أراها بداية مائة جديدة يبعث الله فيها الأمة لميلاد يحتاجه العالم.[/size]