ومن الدروس التي يجب أن يستفيد منها الدعاة إلى الله من السيرة النبوية التدّرج في تبليغ الناس أحكام الدين، اقتداءً منهم برسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته، وذلك واضح بيّن في مراحل الدعوة التي سلكها وأوصى بها أصحابه رضوان الله عليهم.
فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم عندما أرسل معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن أوصاه وصيّة رائعة.. فقد أوصاه أن يبدأ دعوته بالتوحيد ونبذ الشرك، فإذا استجاب الناس وأطاعوه فليأمرهم بإقامة أركان الإسلام.
ويحسن بنا أن نورد نصّ
(1) الحديث كما جاء في الصحيحين:
عن ابن عباس عن معاذ بن جبل رضي الله عنهما، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال: " إنّك تأتي قوما أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أنّ الله افترض عليهم خمس صلوات في كلّ يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أنّ الله ا فترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتردّ في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب".
رواه البخاري (1395)، وفي مواضع أخرى، ومسلم (19)، والنسائي (5/2)، وأبو داود برقم (1584)، والترمذي (625)، وابن ماجه (1783).
إنّ هذا الحديث العظيم يدلّ على وجوب اتباع المراحل التي ينبغي أن يسلكها الدعاة والقادة وأولو الأمر في دعوة الناس، وإقامة المجتمع الإسلامي.
وأوّل هذه المراحل – كما جاء في الحديث – الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، ثم البداءة بالأهم فالأهم.
إن البداءة بالأهم ثم المهم من التلطّف في خطاب الناس ودعوتهم، لأنهم لو طولبوا بجميع أحكام الدين دفعة واحدة في أول مرة لم يأمن الداعي من النفرة.
إنّ مراعاة الأولويات شيء أساسي في نجاح الدعوات، وكثيراً ما يغفل الدعاة عن هذا الأمر.
إنّ كلَّ كليّة وجزئية جاء بها الشرع المطهّر وأمر بها على وجه اللزوم واجبةُ التطبيق، والتهاون فيها يحمل معنى سيئاً لا يليق بالمسلم أن يتصف به، وجهلها إن كانت مطلوبة على وجه الوجوب نقص في المسلم لا يجوز أن يستمرّ فيه، ولكنّ هذا شيء، والتدرّج في مطالبة الناس بالالتزام بالإسلام شيء آخر.
والتدرّج في إبلاغ الناس مبادئ الدين وسلوك المنهج المرحلي أمر مطلوب، وهو الذي نقف عليه من أحداث السيرة المطهرة، فلا يليق بالداعية أن يطلب من كافر، أو ملحد ينكر وجود الله، أو مشرك يؤمن بالطاغوت، أو متشكك في الدين؛ لا يليق أن يطلب من واحد منهم أداء واجب من الوجبات التي لا تصح إلا بالإيمان، وهذا أمر قد يقع فيه بعض الدعاة الذين لم يدرسوا الوسط الذي يدعون الناس فيه.. إنّ من الواجب على الداعية أن يعلم حقّ العلم طبيعة المجتمع الذي يواجهه بالدعوة، وأن يبدأ بالأساسيات، وعليه أن يتجنّب المنفرات.
عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا " رواه البخاري (69)، ومسلم (1734).
إنّ كثيراً من الأمور التي يصعب على الناس قبولها من دعوتنا لو بدأنا بها لنفروا منّا، وأعرضوا عنّا، ولكنّنا لو بدأنا بذكر محاسن طاعة الله ورسوله، وما أعدّ الله لمن يؤمن به ويعمل الصالحات من الثواب لاستجابوا لنا.
أجل يستجيب لنا هؤلاء الناس عندما تستقر الدعوة في قلوبهم وتعظم خشية الله عندهم، وتعظم الرغبة في الجنة.. وعندئذ يصبح ما كانوا يكرهونه حبيباً إلى نفوسهم.
ومن الأمثلة على ذلك موقف الداعية في وسط ألف السفور والحسور والتبرج أو أَلِفَ الموسيقى والغناء.. لو بدأناهم بإنكار هذه المحرّمات، وهي تستحقّ الإنكار لأعرضوا عنا وعن دعوتنا.. ولكنّنا لو أخرّنا التعرّض لها حتى نطمئن إلى أن إيمانهم أصبح قوياً، وأن الخوف من الله يملك عليهم تصرفاتهم، لاستجابوا لنا في إنكارها، وانقادوا إلى الحق راضين طائعين.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا. رواه البخاري برقم (4993).
قال الأستاذ سيد قطب:
[لقد جاء هذا القرآن ليربي أمة، وينشئ مجتمعاً، ويقيم نظاماً، والتربية تحتاج إلى زمن، وإلى تأثير وانفعال بالكلمة، وإلى حركة تترجم التأثّر والانفعال إلى دافع، والنفس البشرية لا تتحوّل تحوّلاً كاملاً شاملاً بين يوم وليلة بقراءة كتاب شامل للمنهج الجديد، إنما تتأثّر يوماً بعد يوم وليلة بطرق من هذا المنهج، وتتدرج في مراقيه رويداً رويداً، وتعتاد على حمل تكاليفه شيئاً فشيئاً، فلا تجفل كما تجفل لو قُدّم لها ضخماً ثقيلاً عسيراً، وهي تنمو في كل يوم بالوجبة المغذية فتصبح بالتالي أكثر استعداداً للانتفاع بالوجبة التالية، وأشد قابلية لها والتذاذاً بها ]. في ظلال القرآن (5/2562).
والتدرج في التشريع وسيلة من وسائل رعاية المجتمع الإسلامي والأخذ بيده، ومن أبرز الأمثلة على ذلك الآيات التي ذكر فيها الخمر.
فلقد حُرّمت بعد أن امتلأت نفوس المسلمين مخافةً من الله، ورغبة في ثوابه، وحباً في التزام هديه.
كان تحريم الخمر على مراحل كما هو معروف.
نزل أولاً قوله تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا" [البقرة: 219].
فلم تصّرح الآية بطلب الكف عنهما، ولكنّها اكتفت بذكر أن أثمهما أكبر من نفعهما، وفي ذلك تهيئة النفس لقبول ما سينزل من الآيات بحقّها.
ثم نزل قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ " [النساء: 43].
وفي هذه الآية نجد المنع من الصلاة حالة السكر، ومعلومٌ أنَّ المسلم مكلّف بالصلاة في أوقات متقاربة لا يذهب خلالها أثر السكر، فكان ذلك سبباً في ترك شرب الخمر سحابة النهار، فكان الصحابة إذا صلوا العشاء سكر من أراد منهم السكر، وفي ذلك تدريب على تركها مدّة طويلة من يقظة الإنسان.
ثم نزل قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ" [المائدة:90-91].
فانتهى المسلمون عن شربها، وأهرقوا ما في دورهم منها
(2).
إن على الداعية إلى الله أن يفيد من السيرة النبوية في دعوة الناس فذلك أدعى إلى نجاحه في مهمته.
ويحسن بنا أن نورد حديث سيدنا عمر رضي الله عنه في تحريم الخمر.
روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لما نزل تحريم الخمر قال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت هذه الآية التي في سورة البقرة: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا" [الآية: 219].
فدعي عمر، فقرئت عليه، فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في سورة النساء: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ" [الآية:43].
فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى: أن لا يقربنّ الصلاة سكران فدعي عمر، فقرئت عليه، فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت الآية التي في المائدة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [المائدة:90].
فدعي عمر، فقرئت عليه، فلما بلغ: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قال عمر: انتهينا انتهينا.
رواه أحمد (1/53)، وأبو داود (3670)، والترمذي (3049)، والنسائي (8/286).
والآية التي تليها والتي فيها: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ).
هي: ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) [الآية: 91].