*بسم الله الرحمن الرحيم*
*عنوان خطبة
*( فضيلة الصفح وسمو الاعتذار من أخلاق المسلمين )*
__________________________
الْحَمْدَ لِلَّهِ الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، نحمده ونستعينه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة حق تنجينا من عذاب أليم ، عليها نحيا وعليها نموت ، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله ، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة وكشف الغمة ، وجاهد في الله حق جهاده وترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ، اللهم صلّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
لا يخفى على المسلمين أجمعين أن الاعتذار عن الخطأ خُلق كريم من أخلاق الإسلام يدل على الشجاعة الأدبية في قبول الحق ، وسلامة النفس من الكِبر والاستعلاء على غيره، وأن قبول الاعتذار سمو في الأخلاق، والصفح الجميل عمن اعتذر دليل على الكرم والحلم ، وهي صفات أهل الإيمان التي مدحها الله عز وجل.
والحق أنَّ من أعظم الأخلاق الإسلامية التي وجهنا إلينا الله عز وجل، وحثّنا عليها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، خُلق الاعتذار عند وقوع الزلل أو الخطأ من المسلم، فإن الإنسان بطبيعته البشرية غير معصوم عن الوقوع في الخطأ، ولكن المؤمن ذو الخلق الرفيع، والنفس الزكية، هو الذي يراجع نفسه، ويعتذر لإخوانه، ولا يعاند أو يستكبر على الباطل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: »كلُّ بني آدم خَطَّاءٌ، وخيرُ الخَطَّائِينَ التوابون« سنن الترمذي، والتوبة عن الذنب تشمل ما كان في حقّ الله عز وجل، وما كان في حقّ عموم الناس، بل إن الله تعالى رحمته أوسع من رحمة العباد، ومغفرته أقرب لمن أخطأ وأذنب في حقه سبحانه وتعالى، لذلك قال العلماء: "حقُّ الله مبني على المسامحة، وحق الناس مبنية على المشاحّة"، لذلك كان لزاماً على كل إنسان أخطأ في حق أحد إخوانه أن يبادر إلى التوبة وصدق الاعتذار وطلب العفو والصفح ممن أخطأ في حقّه، حتى لا يأتي يوم القيامة، وقد اشتدت به الحسرة والندامة، في يوم لا يُقبل فيه الإقرار، ولا ينفع فيه الاعتذار، يقول الله سبحانه وتعالى: (هَٰذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ، وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) المرسلات: 35-36، ثم يجد نفسه مُفلساً من الحسنات، وتنتظره ذنوب وآثام جريرة تماديه في الباطل وعدم انصياعه للحق والقبول به، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» صحيح مسلم.
عباد الله: إن العبد يحرص دائماً على عدم الخطأ في حقّ الآخرين لأن ترْكُ الذنبِ أيسرُ من التماسِ العُذْرِ، يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إياك وما يُعْتَذَرُ منه"، وفي روايةٍ: "انظرْ إلى ما تَعتذِرُ منه من القولِ والفعلِ؛ فاجتنبْهُ"؛ رواه الطبرانيُّ، فإذا وقع الخطأ فينبغي للمسلم أن يسارع إلى الاعتذار فإن ذلك يدل على شجاعة في نفس صاحبه، ورقي في التعامل، وسموٍّ في الأخلاق، بل هو دليل على التواضع للآخرين، وقد تجلّى خُلق الاعتذار سلوكاً عملياً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو النبي المعصوم عن الوقوع في الخطأ والزلل، ولكنه صلى الله عليه وسلم من عظيم رحمته وشدّة تواضعه، كان يستسمح أصحابه الكرام، لتبقى القلوب صافية نقية، وليكون الأسوة الحسنة بين المؤمنين، فروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يعدَّل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح (سهم) يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار وهو مُستَنْتِلٌ (متقدم) من الصف، فطعن في بطنه بالقدح، وقال: (استوِ يا سواد)، فقال: يا رسول الله! أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني (مكِّنِّي من القصاص لنفسي( فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه فقال: )استقد (أي: اقتص، قال: فاعتنقه، فقبَّل بطنه، فقال: (ما حملك على هذا يا سواد؟) قال: (يا رسول الله! حضر ما ترى، فأردتُ أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له، استو يا سواد" رواه الطبراني.
إن شيوع ثقافة الاعتذار عن الخطأ والزلل، مع ردّ الحقوق إلى أصحابها، هو صمام أمان في المجتمع لأنه ينقي القلوب من الشحناء والبغضاء، ويغلق الباب في وجه أصحاب الفتن، ووساوس الشيطان، يجنب الناس الهلاك بسوء الظن وتقاذف التهم، لذلك هو خلقٌ ينبغي أن يتم تربية الأبناء عليه وتدريبهم على الإقدام عليه بكل شجاعة، ليكون الجو السائد في الأسرة هو جو الاحترام والتقدير المتبادل بين الجميع، ثم تنعكس ثمراته وخيراته على المجتمع، وقد ضرب الله تعالى لنا مثلاً من قصة سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام وما حدث بينه وبين إخوته، ثم جاؤوه يعتذرون عن فعلهم، فقالوا كما أخبر الله سبحانه وتعالى: (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ) يوسف: 91، فبهذا الاعتذار الصادق كانت نجاتهم حين تجلّت في يوسف عليه الصلاة والسلام شيم الكرام، وأخلاق الأنبياء في الصفح والعفو، فقال تعالى حكايةً عنه: (قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) يوسف: 92.
وفي هذا الموقف من سيدنا يوسف عليه السلام، توجيه وإرشاد من الله عزّ وجل، إلى قبول المعذرة ممن جاء معترفاً بالذنب مخلصاً في القول، فإن هذا الخلق العظيم هو منهج الأنبياء والصالحين، وقد أمر الله تعالى سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بالعفو والصفح عمّن جاءه معتذراً تائباً فقال سبحانه: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) المائدة: 13.
ومما ورد في عظيم عفو النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه كعب بن زهير معتذراً عمّا فعله في الجاهلية من هجائه للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين، ثم جاء بعد ذلك مُسلماً تائباً، وألقى بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم شعراً يعتذر فيه عما بدر منه، فقال:
أُنْبِئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي ... وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ
فَقَدْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ مُعْتَذِرًا ... وَالْعُذْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَقْبُولُ
فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن قبل منه اعتذاره، بل وأكرمه بإعطائه ببردته الشريفه التي أهداها لكعب بن زهير على حُسن اعتذاره وصدق قوله.
فكما أن الاعتذار دليل قوة وشجاعة، فإن الصفح عن الخطأ والزلل دليل حِلمٍ وكرمٍ وشهامة، فمهما بلغ غضب المسلم، فإن حلمه يغلب غضبه، وعفوه يسبق انتقامه، وبكلمات رقيقة صادرة عن لسان صادق، وقلب طيب، كافيةٌ لتطييب خاطره، وقد مدح الله تعالى المؤمنين بصفة العفو عن الأخطاء والصفح عن الناس، فقال سبحانه: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) الشورى: 37، خاصة إذا علم المسلم أن الله تعالى وعد العافين عن الناس، والصافحين عن أخطائهم بالمغفرة والأجر العظيم، الذي لا يعلم مقداره إلا الله عز وجل، فقال سبحانه وتعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الشورى: 40، لذلك أمرنا الله تعالى بأن ندفع السيئة بالتي هي أحسن وأن يكون الإحسان هو سيد الموقف، فإذا صادف المسلم إساءة من أخيه فالأولى أن يقابل ذلك بالصفح والعفو وكظم الغيظ، لأنّ ذلك من شأنه أن يزيل أسباب العداوة والبغضاء بين الناس، ويجعل مكان الاختلاف وفاقاً، وبدل التنازع ألفة، قال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) فصلت: 34-35.
*الخطبة الثانية:*
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده ، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، وبعد : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } آل عمران : 102.
*عباد الله :* إن الاعتذار عن الخطأ فضيلة عظيمة، بل هي دَين يبقى في ذمة المُخطئ يؤديه إلى من أخطأ في حقّه، وعلى المُسلم أن يدرب نفسه على هذا الخلق، فلا تأخذه العزّة بالإثم، لذلك فإن من شروط الاعتذار الصادق، أن يقلع صاحبه عن الخطأ، وأن يرد الحقوق إلى أصحابها، فليس الاعتذار مجرد كلمات يلقيها الإنسان على الأسماع بالكذب والباطل، ليتخلص من وزر إثمه، بل هو توبة صادقة، ورجوع إلى طريق الحق والرشاد.
إن أولى من يواظب المسلم على الاعتذار له، أن يعتذر لربّه عز وجل عن كل ذنب أو تقصير، أو تفريط في حقّ الله عز وجل، وقد علمنا الله سبحانه وتعالى أن ندعوه ونسترضيه، ونعتذر إليه، فقال سبحانه مُعلماً للمؤمنين أن يقولوا: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) البقرة: 286.
وهذا هو منهج الأنبياء وخلقهم فذكر الله تعالى لنا مثلاً من قصة سيدنا يونس عليه السلام، فقال سبحانه: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ)، فلما عاد واعتذر إلى الله سبحانه وتعالى ولجأ بالدعاء إلى الله عز وجل حيث قال: فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (الأنبياء،87) ، نجاه الله سبحانه وتعالى وأنقذه من ظلمات بعضها فوق بعض، فلا تنسوا الدعاء بهذا الدعاء 40 مرة كل يوم فإن كنتم مرضى، يَغفر الله لكم ذُنوبكم أو تدخلوا الجنة. (رواه الحاكم)، وَقُولوا (سبحان الله وبحمده) 100 مرة كل يوم تُحط عنكم خطاياكم ولو كانت مثل زَبَد البحر، رواه البخاري.
*سائلين الله تعالى أن يحفظ جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين وولي عهده الأمين الأمير الحسين بن عبد الله وأن يوفقهما لما فيه خير العباد والبلاد ، إنه سميع مجيب*
*والحمد لله رب العالمين*