هذا مع حفظ مراتب العلماء وموالاتهم واعتقاد حرمتهم وأمانتهم واجتهادهم في حفظ الدين وضبطه؛ فهم دائرون بين الأجر والأجرين والمغفرة، ولكن لا يوجب هذا إهدار النصوص وتقديم قول الواحد منهم عليها بشبهة أنه أعلم بها منك؛ فإن كان كذلك فمن ذهب إلى النص أعلم به منك فهلا وافقته إن كنت صادقاً.
فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها وخالف منها ما خالف النص لم يهدر أقوالهم ولم يهضم جانبهم؛ بل اقتدى بهم فإنهم كلهم أمروا بذلك، فمتبعهم حقاً مَنْ امتثل ما أوْصَوا به، لا مَنْ خالفهم، فخلافهم في القول الذي جاء النص بخلافه أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا ودعوا إليها من: تقديم النص على أقوالهم.
ومن هنا يتبين الفرق بين تقليد العالم في كلَّ ما قال وبين الاستعانة بفهمه والاستضاءة بنور علمه؛ فالأول: يأخذ قوله من غير نظر فيه ولا طلب لدليله من الكتاب والسنة؛ بل يجعل ذلك كالحبل الذي يلقيه في عنقه يقلده به ولذلك سمى تقليداً، بخلاف ما استعان بفهمه واستضاء بنور علمه في الوصول إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فإنه يجعلهم بمنزلة الدليل إلى الدليل الأول، فإذا وصل إليه استغنى بدلالته عن الاستدلال بغيره، فمن استدل بالنجم على القبلة؛ فإنه إذا شاهدها لم يبق لاستدلاله بالنجم معنى، قال الشافعي: أجمع الناس على أنَّ من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد)).
وقال في [الصلاة وحكم تاركها ص115]: ((وقد أنكر الأئمة كالإمام أحمد والشافعي وغيرهما دعوى هذه الإجماعات التي حاصلها عدم العلم بالخلاف، لا العلم بعدم الخلاف فإنَّ هذا مما لا سبيل إليه إلا فيما علم بالضرورة أنَّ الرسول جاء به!!.
وأما ما قامت الأدلة الشرعية عليه فلا يجوز لأحد أن ينفي حكمه لعدم علمه بمن قال به؛ فإنَّ الدليل يجب اتباع مدلوله، وعدم العلم بمن قال به لا يصح أن يكون معارضاً بوجه ما؛ فهذا طريق جميع الأئمة المقتدى بهم)).
بل لعلَّ الجهل بالقائلين بالخلاف خير للباحث من حيث التجرد للحق ودفع الهوى الخفي من التعصب للقائل دون الحق؛ كما قال العلامة السعدي في المناظرات الفقهية: ((ومن فوائد ذلك: أنَّ الأقوال التي يراد المقابلة بينها ومعرفة راجحها من مرجوحها أن يقطع الناظرُ والـمُناظرُ النظرَ عن القائلين؛ فإنه ربما كان ذكر القائل مغتراً عن مخالفته، وتوجب له من الهيبة أن يكفَّ عن قول ينافي ما قاله)).
أما أنَّ ما ذهب إليه المجيزون لصيام السبت في غير الفرض هو قول أكثر أهل العلم أو جمهورهم؛ فيقال لهم: نعم هو كذلك؛ لكن الكثرة لا تدل على الصواب وليست مقياساً لمعرفة الحق كما هو معلوم من أدلة الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح؛ ولا أظننا نحتاج إلى ذكر ذلك، لكن أُعجبت بكلمة لابن حزم تناسب هذا المقام؛ وهي قوله في [الإحكام 2/186-187] لما أورد قول الخصم: "وقالوا: نرجِّح أحد الخبرين بأن يكون يميل إليه الأكثر من الناس" فردَّ عليه بقوله: ((ولأنَّ كثرة القائلين بالقول لا تُصَحِّح ما لم يكن صحيحاً قبل أن يقولوا به، وقلة القائلين بالقول لا تُبطِل ما كان حقاً قبل أن يقول به أحد؛ وقد بينا هذا جداً في باب: "إبطال قول من رجح الخبر بعمل أهل المدينة" في آخر هذا الباب، وأيضاً: فإنَّ القول قد يكثر القائلون به بعد أن كانوا قليلاً، ويقلّون بعد أن كانوا كثيراً؛ فقد كان جميع أهل الأندلس على مذهب الأوزاعي رحمه الله ثم رجعوا إلى مذهب مالك، وقد كان جمهور أهل إفريقية ومصر على مذهب أبي حنيفة وكذلك أهل العراق ثم غلب على إفريقية مذهب مالك وعلى مصر والعراق مذهب الشافعي؛ فيلزم على هذا: أنَّ القول إذا كثر قائلوه صار حقاً وإذا قلوا كما ذكرنا عاد باطلاً؛ وهذا هو الهذيان نفسه)).
د – ومنهم من ذهب إلى القياس؛ وهم قسمان:
1 – من قال: أنَّ صيام النوافل المؤكدة والصوم المعتاد يدخلان في لفظة "إلا في ما افترض عليكم".
2 – من قال: النهي عن الصيام في يوم منهي عن صيامه مثل السبت كالنهي عن الصلاة في وقت منهي عن الصلاة فيه؛ فكما أنّه تجوز صلاة ذات الأسباب في وقت النهي؛ كذلك يجوز صيام النوافل المؤكدة والمعتادة في الأيام التي نهى الشرع عن صيامها. فيقال لهم:
أ – أنَّ هذا اجتهاد في مقابل النَّص؛ وأهل العلم يقولون: " لا اجتهاد في مورد النَّص".
ب – أنَّ دخول صيام النَّافلة المعتاد والمؤكَّد في اصطلاح "الفرض" غريب، ويُعارض قول النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن ربِّ العزة: ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ...)) وهو في صحيح البخاري؛ فالتسوية بين الفرض والنَّافلة مردودة بهذا الحديث.
ج – أما قياس صيام النَّافلة في يوم السبت وهو يوم منهي عن صيامه على صلاة ذات الأسباب بعد صلاتي العصر والصبح وهما وقتان منهيٌ عن الصلاة فيهما.
فيقال: هذا قياس في العبادات؛ وأول مَنْ يردَّه المخالِف؛ نوضح ذلك فنقول: هل يصح قياس صيام النَّافلة في يوم العيد وهو يوم منهيٌ عن صيامه على صلاة ذات الأسباب في أوقات النهي؟! فإن قلت: نعم يصح؛ فقد قلت قولاً لم يسبقك فيه أحد وخالفت إجماع أهل العلم وقد تقدَّم نقله، وإن قلت: لا يصح؛ قلنا لك: كذلك لا يصح في يوم السبت؛ لعدم الفرق بينهما، والشريعة جاءت بالجمع بين المتشابهات، والتفريق بين المختلفات، فإن قلت: بل هناك فرقٌ؛ فصيام العيد مجمعٌ على حرمته وصيام السبت مختلفٌ فيه؛ قلنا لك: تقدَّم الجواب عن ذلك في الوجه الثالث من وجوه الرد على الأدلة العامة، فلا نعيد؛ ثم أليس مسألة صلاة ذات الأسباب في أوقات النهي من المسائل التي اشتدَّ فيها الخلاف بين أهل العلم فكيف – على رأيكم الآنف الذكر – يُقاس عليها؟!.
ويقال: اعلموا أنَّ مَنْ أجاز الصلاة المقيَّدة بسبب في أوقات النهي من أهل العلم إنَّما قال ذلك بعد أن ورد في الشرع ما يدل على ذلك؛ كقضاء سنَّة الظهر بعد العصر؛ قال النووي: ((واحتج الشافعي وموافقوه: بأنه ثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قضى سنة الظهر بعد العصر؛ وهذا صريح في قضاء السنة الفائتة, فالحاضرة أولى, والفريضة المقضية أولى, وكذا الجنازة))؛ فالأدلة المعارضة لهذا النَّهي العام منها ما هو مخصص له، ومنها ما بينه وبينها عموم وخصوص؛ وهي أدلة صحيحة السند قوية الدلالة؛ فمن أهل العلم من ذهب إلى جواز الصلاة مطلقاً وأدَّعى النسخ، ومنهم من ذهب إلى المنع مطلقاً وأدَّعى الخصوصية، ومنهم مَنْ ذهب إلى الجمع فقال: إذا كانت الصلاة لها سبب مثل قضاء الفوائت من الفرائض والسنن أو صلاة العيد أو صلاة الجنازة أو صلاة الكسوف أو الاستسقاء أو تحية المسجد أو غير ذلك جاز أن تُصلَّى في تلك الأوقات المنهي عنها، وإن لم يكن لها سبب كالتنفل المطلق فلا يجوز؛ وهذا جمع لا بدَّ منه لتعارض الأدلة؛ وهو جمعٌ بوجه مقبول.
أما الأدلة المتعارِضة في صيام السبت: فقد فصَّلنا القول فيها؛ وبيَّنا أنَّ منها ما هو ضعيف فلا يُحتجُّ به، ومنها ما هو صحيح لكنه عام؛ وحديث النهي عن صيام السبت في غير الفرض خاص، وحمل العام على الخاص متعين، وقد ذكرنا وجوه الرد على تلك الأحاديث، فلا نحتاج إلى إعادته.
وبعد؛ فقد انتهى عرض أدلة المختلفين في هذه المسألة، ودلالتها على ما ذهبوا إليه من أقوال، ومناقشتها؛ وتبيَّن لي:
أنَّ أرجح الأقوال: هو القول بعدم مشروعية صيام يوم السبت في النوافل كلِّها سواء ضُمَّ إليه يوم آخر، أو وافق صوماً معتاداً كعرفة أو عاشوراء أو ست من شوال أو الأيَّام البيض إلى غير ذلك من صيام النَّافلة، وأنَّه يشرع صيام السبت في كلِّ ما فُرِضَ علينا كرمضان أو صوم الكفَّارة أو صوم القضاء أو النَّذر إلى غير ذلك من صور صيام الفرض، والله تعالى أعلم.
هذا ما تيسَّر لي جمعه في هذه المسألة الخلافية، والتي ينبغي أن لا تثير فرقة ولا تناحراً بين المنتسبين للدعوة من طلاب العلم، ولا مانع من الحوار العلمي الموضوعي فيها وفي غيرها من المسائل الخلافية مع بقاء الألفة والأخوة؛ قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 24/172]: ((وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: "فإنْ تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إنْ كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً"، وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين، نعم مَنْ خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يُعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع)).
فإن وفِّقت فيها للصواب فمنَّة من الله جلَّ في علاه، وإن أخطأتُ فيها فمن نفسي ومن تزيين الشيطان؛ والله تعالى بريءٌ منه، ورسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بريءٌ منه.
سبحانك اللهمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك
أخوكم ومحبكم
أبو معاذ رائد آل طاهر
26 – محرَّم – 1425ﻫ