احترام العقل
إذا كانت شهادات الحضارة الإسلامية ومن بعدها شهادات المنصفين من الحضارة الغربيَّة تُوحي بالاحترام والتقدير المتبادلين لأصحاب العقول والفكر الآخرين، وكان من نتيجة ذلك زيادة الانسجام الحضاري والتواصل الفكري بين الشعوب؛ فإنَّ ذلك دليلٌ على أنَّ احترام الفكر والرأي هو احترامٌ للعقل الذي أنتج ذلك الفكر، وإنَّ شهادة سخاو للبيروني دليلٌ على احترام العقل الذي أنتج ذلك الفكر وهذا العلم الذي أفاد البشريَّة كلَّها.
وإذا كان احترام الإنتاج الفكري هو احترامٌ للعقل، فإنَّ احترام الرأي والتعبير هو احترامٌ للعقل، كما أنَّ تقدير الساسة والمفكِّرين وأصحاب القرار لشعوبهم هو احترامٌ لعقولهم.
فالدول التي تحظى باحترام الإنتاج الفكري للآخرين هي الدول الأكثر نماءً وتطوُّرًا من غيرها، وإنَّ الدول التي تسمح للآخرين بإبداء آرائهم والتعبير عن أفكارهم هي الدول الأكثر تقدُّمًا واستقرارًا، وإنَّ الدول التي يحترم فيها الساسة وأصحاب القرار شعوبهم هي الدول الأكثر تكاتفًا بين الجميع؛ ومن ثَمَّ يكون النموُّ والازدهار.
تسفيه العقول سبيل الصراعات والحروب
إنَّ من حقِّ العقول احترامها وتقديرها، وعدم تسفيهها والاستخفاف بها واتهامها بالقصور وعدم الإدراك وتعجيزها عن الوصول إلى المراد الذي من أجله وهبها الله للبشر.
فإذا كان احترام العقل يزيد التواصل والتفاهم بين الحضارات والشعوب فإنَّ تسفيه عقول الشعوب واتهامهم بالسطحيَّة وعدم الفهم والوعي والإدراك لهو سبيل الحروب والنزاعات والصراع.
ولنأخذ مثالًا على هذا القمع الذي لا بُدَّ وأن يقود إلى صدام، وهي تجربة القمع الشيوعي لعقول الشعوب المختلفة، التي تمثَّلت في الممارسات القمعيَّة التي اتَّخذتها الشيوعيُّون في سبيل نشر أفكارهم، وخاصَّةً تلك الممارسات التي اتَّخذوها لنشر مبادئهم في دول العالم الإسلامي خلال القرن العشرين، فما أن أحكم الحزب الشيوعي قبضته على البلاد في الاتحاد السوفيتي حتى عمد إلى استئصال شأفة الدين، ولم يُرَاعِ في ذلك حرمة الإنسان، فقتل الشيوعيُّون القضاة والمفتين والوعَّاظ وأئمَّة المساجد والمؤذِّنين، وألغوا في بلاد القرم والبلاد الإسلاميَّة الأخرى المحاكم الشرعيَّة وديار الإفتاء، ثُمَّ حَوَّلُوا المساجد والجوامع إلى مسارح وإصطبلات للخيول، أو مخازن للمؤن والذخيرة، أو إلى أندية أو دور للسينما، وقد جمع البلاشفة نُسخ القرآن والكتب الدينيَّة وأحرقوها، ولم يجرؤ أحدٌ من المسلمين في بلادهم على أداء شعائره الدينيَّة؛ لِمَا فيه من خطر هلاكه.
وفي التركستان الغربيَّة الخاضعة لروسيا، والتركستان الشرقية التابعة للصين الشيوعيَّة اسمًا ولروسيا الشيوعيَّة فعلًا، أقام الشيوعيُّون عمليَّات إبادة بشريَّة، فبعد أن كان عدد المسلمين يتجاوز الأربعة والأربعين مليونًا، تناقص على يد الإبادة السوفيتيَّة إلى ستَّة وعشرين مليونًا، وقد استخدم الشيوعيُّون السوفيت أبشع أنواع التعذيب ضدَّ المستضعفين المسلمين[1].
إنَّ التاريخ يشهد على أنَّ النظم الدكتاتوريَّة والاستبداديَّة هي التي تعمل على حجر العقول وتحريم التعبير عن الرأي والفكر، وهو المنهج الذي اتَّخذته الشيوعيَّة في إبادتها للمسلمين في كلِّ مكان؛ لذلك اشتعلت الحروب والثورات في كلِّ مكانٍ من المسلمين وغير المسلمين، الذين ذاقوا ويلات الشيوعيَّة، ولم تهدأ تلك الحروب والثورات حتى سقط الاتحاد السوفيتي في تسعينيَّات القرن العشرين.
تُرى كم من الأرواح ذهبت لأنَّ أحدهم لم يفهم كيف يحترم الاختلاف الإنساني في شأن العقل! وكم ينبغي أن تبذل الإنسانيَّة من أرواح أبنائها؛ لأنَّ بعضهم لا يُريد حتى الآن أن يفهم أنَّ العقل من فطرة الإنسان التي يجب احترامها، والابتعاد عن قسرها وقهرها وإلزامها باعتناق ما لا تقبله ولا تقتنع به؟
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] كتاب دراسات إسلامية، ص201-206، بتصرف.