إن لغة ما إذا انتشرت في مناطق شتى واسـتخدمها كثیـر مـن النـاس فـي اتصـالهم، یشـق علیها أن تحتفظ بوحدتها الأولى احتفاظا تامّا، بل لا تلبث أن تنشعب إلى لهجـات. وتتطـوّر كـل لهجـة مـن هـذه اللهجـات حتـى تبلـغ میزتهـا التـي تـدفعها إلـى مـنهج یختلـف عـن مـنهج غیرهـا. ولا تنفكّ مسافة الإخـتلاف تتسـع بینهـا إلـى أن تصـبح كـل لهجـة منهـا لهجـة متمیـزة غیـر مفهومـة إلا لأهلها. واللغة العربیة بعد انتشارها في أنواع البقاع، شرعت تنشعب إلـى لهجـات یختلـف بعضـهاعن بعـض فـى مظـاهر متنوعـة حتـى لا یمكـن للنـاطقین بلهجـة أن یفهمـوا لهجـة أخـرى یـتكلم بهـا الناطقون غیرهم إلا بعد بذل الجهد في الإهتمام.
ومن الأمور المسلم بها في الدراسات اللغوية الحديثة اتصال اللغة بلهجاتها على مر العصور والأزمان، هذا يؤدي إلى انتقال كثير من صفات اللهجات إلى اللغة الفصحى، وعلى مختلف المستويات، حتى أصبحت الفصحى مزيجا من اللهجات، وأصبحنا نشاهد في بعض الأحيان وجود عدة صور للظاهرة الواحدة . وقد زرعت تلك الظلال اللهجية في بناء الجملة بدور الخلاف بين النحويين.
من المعروف أن العرب كانوا أمة متفرقة إلي قبائل، وأن هذه القبائل قد انتشرت في أنحاء الجزيرة العربية، وكان لكل قبيلة استقلالها وكيانها الخاص، فأدى ذلك إلي انعزالها، وكان من أسباب نشأة اللهجات العربية القديمة.
والمعروف أن اللهجة فصيحة إذا أدت إلى التفاهم والاتصال بين أبنائها ، "وكل عربي لم تتغير لغته فصيح على مذهب قومه، وإنما يقال بنو فلان أفصح من بني فلان أي أشبه لغة بلغة القرآن ولغة قريش، على أن القرآن نزل بكل لغات العرب." (المبرد، 1956م، ص113)
وتعدّدت الدراسات حول موضوع اللهجـات في اللغة العربية ، وأسأل الله العظيم أن يوفقني في كتابه هذا البحث عن اللهجة وأسـباب ظهورهـا وأوسـع اللهجـات اسـتخداما، ثـم تعیـین حـدود الفـروق اللهجیـة والعلاقـة بین اللهجة واللغة، ولمحة سریعة عن أصول لهجات اللغة العربیة ومقارنة أمثلتها.
اللهجة (العربیة)
تعریفها وأسباب ظهورها وأعمّ اللهجات استخداما
اللهجة لغة من لَهِج بالشيء بمعنى أُغرِي به فثابر علیه. ومنه أُلهِج بالشيء یعنـي أولـع به ولزمه. واللهجـة : اللسـان أو طرفـه، یقـال فـلان فصـیح اللهجـة. والهـاجّ الشـيء: اخـتلط بعضـه ببعض. ولَهوَج الأمرَ : لم یحكمه ولم بیرمه (لویس معلوف، 1986 : 735).
وكـذلك مـن لَهِـجَ بـالأَمرِ لَهَجـاً ولَهْـوَجَ وأَلْهَـجَ كلاهمـا أُولِـعَ بـه واعْتـادَه وأَلْهَجْتُـه بـه ویقـال فلان مُلْهَجٌ بهذا الأَمْر أَي مُولَعٌ به. واللَّهْجَةُ واللَّهَجَةُ طَرَفُ اللِّسان واللَّهْجةُ واللَّهَجةُ جَرْسُ الكـلامِ والفـتحُ أَعلـى ویقـال فـلان فصـیحُ اللَّهْجَـةِ . واللَّهْجـةُ اللسـان وقـد یُحَـرَّكُ وفـي الحـدیث مـا مـن ذي لَهْجةٍ أَصدَقَ من أَبي ذَرٍّ (ابن منظور، بدون سنة : 359).
وهناك تعاریف شتى للهجة اصطلاحا، منها:
1. الطریقــة التــي یــتكلم بهــا النــاس اللغــةَ وكثیــرا مــا تــدلّ علــى انتمــاء جغرافــي أو اجتماعي أو ثقافي (الخولي، 1982 : 83).
2. النوع اللغوي الذي یتكلمه به الأفراد في منطقة ما ویختلف عن غیره من الأنـواع اللغویـة الأخـرى بـالمیزات فـي المفـردات والقواعـد والأصـوات. ویصـلح لعـدد مـن اللهجـات أن تكـون لغـة .
(,501, 2002 , Dictionary Ensyclopedic Webster’s New)
3. لغة الإنسان التي جُبل علیها واعتادها (لویس مألوف، 1986 : 735).
4. لغة الإنسان التي جُبِلَ علیها فاعتادَها ونشأَ علیها الجوهري (ابـن منظـور، بدون سنة: 359).
5. مجموعــة مــن الصــفات اللغویــة، تنتمــي إلــى بیئــة خاصــة، ویشــترك فــي هــذه الصفات جمیع أفراد هذه البیئة (أنیس، 1965 : 16).
من خلال التعاريف السابقة يمكننا القول أن اللهجـة تكـاد أن تشـبه باللغـة فـي التعریـف الإصـطلاحي، غیـر أنها لم تبلغ المستوى اللغوي وأن فروقها ما زالت تكون في ضوء لغة واحدة.
العلاقة بین اللهجة واللغة
ذهب بعض العلماء إلـى أنـه لا توجـد حـدود فاصـلة واضـحة بـین لهجـة وأخـرى، أو بینهـا وبین اللغة المشتركة التي تنتمي إلیها تلك اللهجـة (أبـو تـواب، 1999 : 71). واحتجـوا علـى أن میـزة لهجـة لا تبلـغ مسـتوى التحدیـد والتفریـق بینهـا وبـین أخواتهـا حیـث یقـدر النـاطقون بهـا علـى التفاهم، وهذا التفاهم لا یمكن أن یحصل علیها الناطقون بلغتین مختلفتین. وذهب بعض العلماء الآخرین إلى أمكان تقسیم الفروق اللهجیة بحجة أن الخصائص والسمات المعیّة في لهجة سوف تختلف عنها في أخواتها ولو بصورة ضئیلة.
فتقسـیم الفـروق اللهجیـة یرجـع إلـى إحسـاس حقیقـي لـدى سـكان الإقلـیم الواحـد، إحسـاس بـأنهم یتكلمـون بصـورة مـا لیسـت هـي الصـورة التـي یسـیر علیهـا سـكان الإقلـیم المجـاور. إذن، لا نحتـاج إلـى إطالـة الكـلام فیـه. والمهـم فـي مسـألة التفرقـة اللهجیـة أن كـل نـاطق بلهجـة یحـس فـي أعماقه أن لسانه هو اللسان المستقیم، وأن لهجته هـي اللهجـة المعتدلـة، ومـا عـداها فهـو انحـراف عن الصواب (شاهین، 1984 : 170).
والأمر الأدق ینبغي الإهتمام به هو مسألة معرفة الحدود اللهجیة بـین لهجـة وأخـرى. إن لكل فرد فروق في التلفّظ بین متكلم وآخر، وهذه الفروق الفردیـة (idiolect) قـد تتفشـى فـي إقلـیم معیّن لتصبح طابعا یمیّز لهجته عن سائر الأقالیم المجاورةSamsuri ,1991 , 17-18) ).
أما العلاقة بین اللهجة واللغة فهي علاقة الخاص بالعام، لأن بیئة اللهجـة هـي جـزء مـن بیئة أوسع وأشمل تضم عدة لهجـات، لكـل منهـا خصائصـها، ولكنهـا تشـترك جمیعـا فـي مجموعـة من الظواهر اللغویة التي تیسر اتصال أفراد هذه البیئات بعضهم ببعض، وفهم ما قد یدور بینهم من حدیث فهما یتوقف على قـدر الرابطـة التـي تـربط بـین هـذه اللغـات. وتلـك البیئـة الشـاملة التـي تتـألف مـن عـدة لهجـات هـي التـي اصـطلح علـى تسـمیتها باللغـة. فاللغـة عـادة تشـتمل علـى عـدة لهجـات، لكـل منهـا مـا یمیزهـا، وجمیـع هـذه اللهجـات تشـترك فـي مجموعـة مـن الصـفات اللغویـة، والعادات الكلامیة التي تؤلف لغة مستقلة عن غیرها من اللغات (أبو تواب، 1999 : 72).
وبيئة اللهجة جزء من بيئة أوسع وأشمل تضم عدة لهجات، لكل منها خصائصها المميزة، ويربط بينها جميعا مجموعة من الظواهر اللغوية التي تيسر اتصال أفراد هذه البيئات بعضهم ببعض، وفهم ما قد يدور من حديث. وتلك البيئة الشاملة التي تتألف من عدة لهجات هي التي اصطلح على تسميتها اللغة. فالعلاقة بين اللغة واللهجة هي العلاقة بين العام والخاص.( شاهين، 1980م، ص225)
وعندما تتعدد اللهجات في مجال لغوي واحد، يصعب وضع حدود لهجية بينها، لكن ذلك لا يعني بحال من الأحوال أن اللهجات لا تعرف الحدود مطلقا؛ لأن لكل لهجة مجموعة من الصفات المشتركة التي تميز بينها وبين جارتها، و من حقنا أن نتكلم عن وجود لهجات كلما لاحظنا عددا كبيرا من الخطوط التي تفصل بين الخصائص ولو بشكل تقريبي. وعندما لا يمكن رسم خطوط دقيقة بين منطقتين متجاورتين فإنه يبقى أن كلا منها تتميز في مجموعها ببعض السمات العامة التي لا توجد في الأخرى، فالتقسيم اللهجي يرجع إلي إحساس حقيقي لدى سكان الإقليم الواحد، إحساس بأنهم يتكلمون بصورة ما ليست هي الصورة التي يسير عليها سكان الإقليم المجاور.( فندريس، 1950م، ص213)
واهتم كثير من الباحثين العرب المحدثين بدراسة اللهجات العربية في أنحاء العالم العربي، وأسهمت الجامعات العربية بدورها في هذا الاهتمام لدى اللغويين العرب المحدثين بتأليف الكتب في اللهجات العربية قديما وحديثا.( جونستون ، 1975م ، ص16 -17)
ويقول د. إبراهيم أنيس في حديثه نشأة اللغة العربية المشتركة في مكة حيث يقول:"فكان أن نشأت بها لغة مشتركة أسست في كثير من صفاتها على لهجة مكة. ولكنها استمدت أيضا الكثير من صفات اللهجات التي كانت تفد إليها، ثم نمت هذه اللغة مع الزمن وتبلورت مسائلها وأصبح لها كيان مستقل عن كل اللهجات ثم انتشرت مع القبائل والوفود حتى انتظمت جميع أنحاء شبه الجزيرة، وأصبحت اللغة التي ينظم بها الشعراء ويخطب بها الخطباء والتي تصطنع في كل مجال جدي من مجالات القول، فهي اللغة الأدبية النموذجية التي كانت محل الإعجاب والتقدير من العرب جميعا." (أنيس، 1960م، ص9).
وعلى هذا الأساس فاللغة المشتركة عنده مزيج منسجم من القواعد والأصول
أخذت مع الزمن هذا الشكل العام، فلا تدّعيها لنفسها قبيلة من القبائل ولا يقتصر شأنها على بيئة بعينها من بيئات العرب القدماء.
ومن الأمور المسلم بها في الدراسات اللغوية الحديثة أن اللغة ظاهرة اجتماعية، ترتبط بالمجتمع، وتعيش في أحضانه، تتقدم بتقدمه، وتتأخر بتأخره، وكل لغة في هذا العالم تتغير بلا انقطاع، وتتطور على الدوام.
وهذا التغير يحدث في كل عصر من عصور اللغة، وعلى مختلف المستويات. ففي كل زمن تظهر مفردات وتراكيب جديدة، وتختفي أوتهمل مفردات وتراكيب أخرى. ويتم ذلك دون قصد من أصحاب اللغة، بل دون شعورهم.( الهاشمي ،1978 ، ص11 - 10).
المراجع
ابن منظور، محمد بن مكرم. (بدون سنة). لسان العرب، الجزء الأول، الطبعة الأولى. بیروت: دار صادر.
أبــو تــواب، رمضــان. (1999) . فصــول فــي فقــه العربیــة، الطبعــة السادســة. القــاهرة : مكتبــة الخانجى.
أنیس، إبراهیم. (1965) . في اللهجات العربیة. القاهرة.
د. أنيس، إبراهيم (1960م) . مستقبل اللغة العربية المشتركة ،القاهرة : معهد الدراسات العربية.
التهامي الراجي الهاشمي ،(1978) ،بعض مظاهر التطور اللغوي ،الرباط ، دار النشر المغربية .
جونستون ،(1975م)، دراسات في لهجات شرقي الجزيرة العربية، ترجمة د. أحمد الضبيب ، الرياض: عمادة شؤون المكتبات، جامعة ملك سعود.
الخولي، محمد علي،(1982) ،معجم علم الأصوات، الناشر: مطابع الفرزدق التجارية. ط1: الرياض ـ السعودية.
د. شاهين، عبد الصبور ، (1980م) ، في علم اللغة العام ،القاهرة: مؤسسة الرسالة.
فندريس،(1950م)، اللغة، ترجمة عبد الحميد الدواخيلي ومحمد القصاص ،القاهرة: آتبة الانجلو المصرية.
مـألوف، لـویس. (1986) . المنجـد فـي اللغـة والأعـلام، الطبعـة الثامنـة والعشـرون. بیـروت: دار المشرق.
Al-Khuli, Muhammad Ali. (1982). A Dictionary of Theoretical Linguistics; English-Arabic With an Arabic-English Glossary. Lebanon: Libraire du Liban.
Samsuri, Analisis Bahasa. (1991). Malang: Erlangga.
Webster's New Encyclopedic Dictionary. (2002). United States of America: Meriam-Webster, Incorporated.