ديفيد كريستل : " كتاب صغير في اللغة "
اللغة الممكنة في مواجهة اللغة المستحيلة
حسن عجمي
اللغة جسد الإنسان و هويته. لذا تختلف اللغات باختلاف البشر و يختلف البشر باختلاف اللغات. وبما أن اللغة هي الحقل الحيوي للإنسان فبها يحيا و بها يكون , إذن تتعدد وظائف اللغة بتعدد أبعاد الإنسان. فمثلاً, الإنسان مشاعر و أفكار, و بذلك من الطبيعي أن تكون اللغة تعبيراً عن مشاعر الإنسان و أفكاره. يرصد المفكر و عالم اللغة ديفيد كريستل في كتابه الجديد " كتاب صغير في اللغة " الوظائف العديدة و المختلفة للغة اعتماداً على التاريخ الفكري الطويل المعني بفلسفة اللغة و أبحاث العلوم الألسنية. وظائف اللغة كثيرة و عرضة للتغير و التطور و التدهور. فبينما تتحوّل اللغة إلى سوبر لغة في الغرب المعاصر, لم نتمكن نحن من تحويل اللغة إلى سلاح حربي نقاتل به بعضنا البعض فقط بل نجحنا أيضاً في اختراع لغة جديدة هي اللغة المستحيلة.
يوضح لنا كريستل الوظائف المتنوعة للغة منها أن اللغة وسيلة للتواصل و التفاهم بين البشر؛ فمن خلال اللغة فقط نتمكن من أن نتبادل المعلومات فننجح في التواصل و التفاهم فيما بيننا. لذا اللغة أساس بناء المجتمع و الحضارة لأن بها فقط نتفق أو نختلف علماً بأنها الأداة الناجحة في إيصال المعلومات و تلقيها. و هذه الوظيفة الأساسية للغة تتضمن وظائف أساسية أخرى لها ألا و هي أن اللغة تشكّل وسائل للتعبير عن الأفكار و المشاعر و الوقائع و الحقائق. فبما أن اللغة أداة للتواصل و التفاهم بين الناس , و بما أن التواصل أو التفاهم بين البشر لا يتم سوى من خلال تعبيرهم عن أفكارهم و مشاعرهم و عما يوجد في الواقع أو ما قد يوجد , إذن اللغة كوسيلة للتواصل و التفاهم تتضمن بالضرورة وظائف اللغة المتمثلة في التعبير عن الأفكار و المشاعر و الوقائع و الممكنات. من الوظائف الأخرى التي تملكها اللغة و ظيفة تغيير العالم و تشكيله. مثل ذلك هو عندما يعمّد رجل الدين المسيحي طفلاً من خلال طقس ديني جوهره قراءة آيات من الإنجيل أو النصوص المقدسة الأخرى حينئذ يغدو ذاك الطفل مسيحياً بفضل ما تم من قراءة لغوية. الشيء نفسه يحدث مع المسلم ؛ فعندما يتلو الفرد الشهادتين مؤمناً بهما يصبح مسلماً. هكذا القراءة أو التلاوة اللغوية تخلق الحقائق و تشكل العالم. من الأمثلة على ذلك أيضاً أننا لا نعد أحداً بفعل شيء ما إلا إذا قلنا له نعدك بذلك , كما لا نعتذر فعلاً من أحد إلا إذا قلنا له نعتذر منك. هذا يرينا أن اللغة هي التي تقوم ببعض الأفعال و بذلك تغيّر العالم و تغيّرنا ( David Crystal : A Little Book of Language.2010. Yale University Press ).
بالإضافة إلى ذلك, يشير المفكر كريستل إلى أدوار أخرى تتخذها اللغة منها أنها تعبير عن الهوية. مثلاً, إذا استخدمنا اللغة العربية للتواصل حينها نعبّر ضمنياً عن أننا عرب أو ننتمي إلى الحضارة العربية. أما إذا استعملنا اللغة الانكليزية في تواصلنا الاجتماعي فحينئذ نعبّر عن أننا انكليز أو ننتمي إلى الثقافة الانكليزية. وهكذا بالنسبة إلى باقي اللغات. ويضيف كريستل أن دوراً أساسياً أيضاً للغة يكمن في أن اللغة تساعدنا في التفكير. مثل ذلك أننا إذا رددنا تعليمات صناعة أو تركيب آلة ما بصوت عالٍ , سوف يساعدنا ذلك في فهم و استيعاب تلك المعلومات ما يتيح لنا النجاح في بناء تلك الآلة التي ننوي تركيبها. لكن ليست كل وظائف اللغة جدية ؛ فمن وظائفها أيضاً أنها تهدف إلى إسعادنا و إسعاد الآخرين. وظيفة اللغة هنا هي وظيفة ترفيهية. فمثلاً نستخدم اللغة من أجل إطلاق النكات و الأحاجي كما نلعب باللغة منتجين نصوصاً لا معنى لها و هدفها الترفيه ليس إلا. و كما تشكّل اللغة العالم تجعلنا نفكر و نشعر؛ فمثلاً قراءة هذه الرواية أو تلك القصيدة تدفعنا نحو التفكير و الشعور على هذا النحو أو ذاك ( المرجع السابق ). من هنا رفضنا للغة رفض للكون و التفكير و الشعور, و هذا ما نعاني منه حالياً في عالمنا العربي. ولقد رفضنا اللغة لأننا نعتمد على لغة مستحيلة متناقضة وبذلك خالية من أي فحوى بدلاً من الاعتماد على اللغات الممكنة التي تراعي المنطق و العلم وتلتزم بهما.
من جهة أخرى, لم تكتف ِ اللغة في اكتساب تلك الوظائف و الأدوار العديدة و المختلفة, بل شهدنا في أوائل القرن العشرين انقلاباً لغوياً خطير المعاني مفاده أن اللغة تخلق الفكر و الواقع. فمثلاً, إذا اعتمدنا لغة الفيزياء بدلاً من لغة أخرى كلغة الرياضيات سوف نفكر بطريقة مختلفة و سنرى الكون من منظور مختلف بل سيتخذ العالم شكلاً مختلفاً عما سيتخذه لو أننا اعتمدنا لغة الرياضيات مثلاً. فمن خلال لغة الفيزياء سيغدو الكون متكوّناً من جسيمات كالإلكترون و طاقات كالجاذبية. لكن إذا اعتمدنا لغة الرياضيات سيصبح الكون متشكلاً من هندسات متعددة و معادلات رياضية مختلفة هي الأساس في نشوء المواد و طاقاتها؛ فمع اختلاف هندسات الطبيعة تتنوع القوانين الطبيعية. أما إذا كانت لغتنا بدائية لا تحتوي سوى على القليل من المفاهيم , إذن من الطبيعي أن لا ننجح من خلالها في فهم الفيزياء أو الرياضيات المعاصرة . هكذا اللغة هي العامل الأساس في صياغة تفكيرنا و واقعنا. و المضمون الفلسفي لهذه الثورة اللغوية يتمحور حول فكرة أن معظم المشاكل الفكرية تنشأ من جراء تخبطنا في اللغة كما يقول الفيلسوف فتجنشتين, و بذلك حلها يكمن في استعمال المفاهيم بشكل سليم لغوياً أو في إصلاح لغتنا بالذات. من هنا اللغة هي المصدر الجوهري في إيصالنا إلى المعرفة و حل مشاكلها (Editor : Richard M. Rorty :The Linguistic Turn.1992.University of Chicago Press ). و تطورت هذه الثورة اللغوية فشهدنا ولادة السوبر لغة.
صاغ الفيلسوف بيار ليفي مصطلح السوبر لغة ليعبّر به عن الثورة المعلوماتية التي أصابت العقل و اللغة. تتجسد السوبر لغة في تبادل الأدوار بين القراءة و الكتابة. لم يعد يوجد فرق حقيقي بين القارىء و الكاتب. فالقارىء يعيد خلق النص من خلال تفسيره أو تأويله على ضوء ما يستنتج منه أو على أساس معارفه المسبقة. هنا يصبح القارىء هو الكاتب أيضاً. أما الكاتب فيكتب على ضوء قراءاته, و بذلك يغدو الكاتب قارئاً أيضاً. و الثورة التكنولوجية مصدر نشوء السوبر لغة لأن بفضلها نجحنا جميعاً في إعادة صياغة المعلومات و النصوص من خلال استعمال الأنترنت مثلاً و المشاركة في خلق معلوماته. بالنسبة إلى ليفي , السوبر لغة هي مجموع الوسائل الاعلامية و الثقافية التكنولوجية المتاحة للجميع على رأسها الأنترنت و التي تسمح لكل الأفراد أن يتفاعلوا مع كل الأفراد ما يؤدي إلى جعل الجميع أذكياء بسبب إمكانية اكتسابهم المعارف و المعلومات كافة من خلال تلك التكنولوجيات. الذكاء الجماعي نتيجة حتمية للسوبر لغة لأن بفضلها يتبادل المبدع و المتلقي الأدوار. فالذكاء الجماعي يتضمن مشاركة الجميع في إنتاج المعلومات و تلقيها. كما أن السوبر لغة المتمثلة بالفضاء الثقافي الافتراضي تتيح للديموقراطية أن تنمو و تزدهر لأنها في الأساس تمكنا من التعبير بحرية عن أفكارنا و رغباتنا و نشرها و الترويج لها ( Pierre levy: Toward Superlanguage. & Cyberculture.2001.University of Minnesota Press). لكن تعاني نظرية بيار ليفي من مشكلة مفادها أنها لا تقبل التعميم ؛ فهي غير صادقة في حال تطبيقها على العالم العربي. هذا لأننا نستخدم التكنولوجيا و ما تتضمن من فضاء ثقافي افتراضي من أجل شن المعارك ضد بعضنا البعض و نشر التخلف و التعصب . التكنولوجيا ليست مفيدة أو سيئة بذاتها بل هي مفيدة أو سيئة حسب استعمالنا لها. بينما الغرب يستخدمها بشكل مفيد له , نحن حالياً نستغلها من أجل إلحاق الأذى بأنفسنا. فرغم أن العالم يسير على خطى السوبر لغة, اخترعنا نحن اليوم لغة جديدة هي اللغة المستحيلة تتويجاً لعصر سوبر تخلفنا.
اللغة المستحيلة هي اللغة المتناقضة. لقد تمكنا في عالمنا العربي المعاصر من بناء لغات مستحيلة و الدفاع عنها. فمعظم نصوصنا و خطاباتنا تقع في التناقض. هذا يعني أننا نقول الشيء و نقيضه في الخطاب ذاته و في العبارة نفسها. فمثلاً, ندعي في لبنان أننا نحيا في بلد ديموقراطي . لكن هذا الادعاء متناقض لأن لا ديموقراطية في ظل نظام طائفي و مذهبي يعامل مواطنيه على ضوء طوائفهم و مذاهبهم بدلاً من معاملتهم على أساس أنهم مواطنون متساوون. كما أن كل نظام عربي حالي يؤكد هو ومناصروه من سياسيين ومثقفين على أنه يحافظ على الحريات ويحترم حقوق الإنسان بينما هو نظام ديكتاتوري يحكمه طاغية أو مجموعة طغاة. وفي هذا تناقض قاتل للعقل و المنطق. هكذا نقع في رفض المنطق و نعتمد لغة مستحيلة نقاتل بها بعضنا البعض. فبينما اللغة المستحيلة هي اللغة الكاذبة بالضرورة لكونها لا تصدق في أي عالم ممكن بسبب تناقضها الذاتي , اللغة الممكنة هي اللغة التي من الممكن أن تكون صادقة في عالمنا الواقعي أو في هذا العالم الممكن أو ذاك لكونها تراعي مبادىء المنطق والتفكير السليم فلا تناقض فيها بسبب أنها علمية أو تملك أسساً علمية. من هنا, لا مفر من المواجهة بين اللغة الممكنة واللغة المستحيلة, ونتيجة هذه المواجهة ستحدد ما إذا سنستمر في تطوير تخلفنا أم سنقبل العلم والمنطق ونخطو نحو التطور الحضاري المنشود. فإذا بقينا سجناء لغتنا المستحيلة سنبقى عبيداً لأسياد العلم والمنطق وستظل أنظمتنا ديكتاتورية ومتحكمة فينا من جراء تخلفنا.
الآن, بما أننا نستخدم اللغة المستحيلة أي المتناقضة, إذن من الطبيعي أن لا نتمكن من التواصل و التفاهم فيما بيننا, و بذلك من المتوقع أن تسيطر علينا العداوات و الصراعات و الحروب الأهلية المتتالية. فمثلاً, معظم الوسائل الإعلامية من فضائيات و أنترنت و صحف تستعمل اللغة من أجل مصلحة طوائف و مذاهب معينة و محاربة مذاهب و طوائف أخرى. من هنا, أصبحت اللغة أداة إرهابية هدفها الأساسي تشويه و مقاتلة بعضنا البعض. و هذا عنصر جوهري من عناصر سوبر تخلفنا. لقد قمنا بثورة على الثورة اللغوية من خلال رفض اللغة و ما تتضمن من وظائف. فبما أننا رفضنا اللغة الطبيعية السليمة والممكنة و استبدلناها بلغة المستحيل, إذن رفضنا أيضاً وظائف اللغة المتمثلة بالتواصل و التفاهم و التعبير عن الأفكار و العلوم و الواقع. فبدلاً من أن تكون اللغة وسيلة للوصول إلى المعرفة أمست اللغة لدينا أداة لشن الحروب و أعمال العنف المادي و المعنوي.
نحن اليوم سوبر متخلفون لأننا نعادي العلم و المنطق و نستخدم العلوم و التكنولوجيا و الدين من أجل نشر الجهل تماماً كما نفعل عندما نستعمل القنوات التلفزيونية كي نغزو بعضنا بالتشويه و التكفير و التخوين.لكننا لم نكتف ِ بذلك لأننا نطوّر تخلفنا بأساليب عدة كأن نستغل اللغة من أجل قتل بعضنا البعض جسدياً و معنوياً. فمن لا يستخدم اللغة كما نفعل يُتهَم بمحاولة تشويه حضارتنا الافتراضية , و في هذا دعوة إلى قتل العقل و الجسد. يكمن السوبر تخلف في استغلال منجزات الحضارة من أجل التجهيل. و هذا ما نجيد فعله. مثل ذلك أن معظم مدارسنا و جامعاتنا تخرّج طائفيين و عنصريين بدلاً من أن تخرّج علماء و أدباء حقيقيين. والسبب في ذلك أن معظمها في أيدي هذه المذاهب أو الطوائف أو تلك ما يجعل رفض المنطق والعلوم أمراً مرغوباً به. لم يسبقنا شعب من الشعوب إلى رفض اللغات الممكنة الممثلة للعلوم ولمبادىء التفكير السليم واستبدالها بلغات مستحيلة غير قادرة على إيصال أية معلومات أو أفكار. هزائمنا نتيجة مباشرة للغة المستحيلة التي نحيا بها وفيها.