حقيقة العبادة ومفهومها في الإسلام
قبل الحديث عن معنى العبادة وحقيقتها في اللغة والاصطلاح الشرعي، وعن مفهومها في الإسلام، والمعاني الدينية الجديدة التي أدخلها الإسلام على هذه الكلمة، يحسن أن نبين أن الدين الحق فطرة في الإنسان فَطَرهُ الله عليها، والقصد من إنزال الوحي ووضع الشرائع الإلهية، هو إظهار تلك الفطرة، وتوجيهها إلى ربها، وحمايتها من الانحراف والضلال.
الدين ميل فطري في الإنسان
قال الله عز وجل : {وإِذْ أخذ ربك من بني آدمَ من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} (1).
وقال سبحانه: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرةَ الله التي فطر الناس عليها ، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّمُ ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (2).
قال الحافظ ابن كثير. المعنى "فَسدِّدْ وجهك واستمر على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية، ولازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيد، وأنه لا إله غيره".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء(3)<.
ومعنى جمعاء أنها تولد كاملة، حتى ذيلها يكون كاملا، ومعنى جدعاء، مقطوعة الذيل، والطفل الآدمي كذلك يولد سليم الفطرة، لا نَقْصَ في فطرته، وإنما تنحرف فطرته وتفسد بما يتلقاه عن أبويه من معتقدات وأباطيل وأضاليل. ويستفاد من الحديث أن اليهودية والنصرانية والمجوسية ليست موافقة لفطرة الإنسان، وأن الإسلام هو دين الفطرة.
قال الطاهر بن عاشور : >وكون الإسلام هو دين الفطرة، وملازمة أحكامه لمقتضيات الفطرة، صفة اختص بها الإسلام من بين سائر الأديان في تفاريعه، أما أصوله فاشتركت فيها الأديان الإلهية، فالإسلام عام خالد، مناسب لجميع العصور وجميع الأمم ولا يستتب ذلك إلا إذا بنيت أحكامه على أصول الفطرة الإنسانية. وفي قوله تعالى: {التي فطر الناس عليها} تصريح بأن الله خلق الناس سالمة عقولهم مما ينافي الفطرة من الأديان الباطلة، والعادات الذميمة، وأن ما يدخل عليهم من الضلالات ما هو إلا من جراء التلقين< (4).
واستخلص بعض المفسرين من قوله تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} أن القرآن يربط بين فطرة النفس البشرية وبين طبيعة الإسلام، وأن الله الذي خلق القلب البشري، هو الذين أنزل إليه هذا الدين، ليحكمه ويصرفه، ويطبّ له من المرض، ويقوّمه من الانحراف، وهو أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير، والفطرة ثابتة والدين ثابت، {لا تبديل لخلق الله}، فإذا انحرفت النفوس عن الفطرة لم يَرُدَّها إليها إلا هذا الدين المتناسق مع فطرة البشر وفطرة الوجود(5).
إن الإنسان خلق ضعيفاً، يصاحبه الإحساس بالضعف والخوف في كثير من الأحوال، ينزل به ضر أو مصيبة، فيبذل قصارى ما يملك من قوة لدفع ما نزل به، فيعجز، فإذا أحس بضعفه اتجه إلى من هو أقوى، يستمد منه العون لإزالة ما به من ضر، أو للتخفيف مما أصابه من مصيبة.
وإن من الفطرة أن يلتمس الضعيف العون من القوى، ويطلب لديه الأمن من الخوف، والخلاص من الشدة، ويتضرع إليه ليعينه ويحفظه، ومن ثم فإن التدين والعبادة ميل فطري في الإنسان لكن هذا الميل، في غياب الوحي الإلهي، أو في حال إعراض الناس عنه، قد ينحرف فيتجه الإنسان إلى عبادة غير الله تعالى، من المخلوقات، توهماً أنها قادرة على أن تنفعه، أو أنها على اتصال بمن يملك القدرة المطلقة.
والله تعالى خبير بعباده، بصير بضعفهم وقصورهم، لذلك أرسل إليهم رسله، وأنزل كتبه لهذا يتهم إلى ربهم الحق الذي له وحده ملك السموات والأرض والنفع والضر، والمنع والعطاء بيده، منه يلتمس العون، وإليه يلجأ المضطر وقت الحاجة، وحين يعرف الإنسان ربه، ويؤمن بأن الخير كله بيده، يتحرر من مخاوفه ومن العبودية للمخلوقات، ويعترف بعبوديته لله وحده، وبقدر ما يكون إيمانه صادقاً، تكون عودة فطرته إلى استقامتها، وتكون طاعته لدين الله خالصة.
إن الإنسان يولد مسلماً، سليم الفطرة، وإنما تفسد فطرته وينحرف عن دين الحق بتأثير المؤثرات المحيطة به. ومن الذين أدركوا هذه الحقيقة بالتجربة الروحية سيدة إنجليزية اهتدت إلى اعتناق الإسلام، ففي حديث لها عن السبب في تحولها إلى الإسلام، قالت: "كنت أسأل دائماًً، متى وكيف أصبحت مسلمة؟. وكنت لا أستطيع الإجابة إلا بأنني لا أعرف بالتحديد اللحظة التي سطع عليََّ فيها فجر الإسلام، ويبدو أنني كنت دائماً مسلمة، وليس هذا غريباًً، عندما يتذكر الإنسان أن الإسلام هو الدين الفطري الذي بإمكان طفل أن يقيمه إذا ترك لنفسه< (6).
حقيقة العبادة لغة
جاء في لسان العرب، عبد الله يعبده عبادة تأله له، والتعبد، التنسك، والعبادة الطاعة، وقال الزجاج في معنى قوله تعالى: {إياك نعبد} أي نطيع الطاعة التي يخضع معها. وقيل إياك نوحد، وقال: ومعنى العبادة في اللغة. الطاعة مع الخضوع، ومنه طريق معبد، إذا كان مذللاً يكثر الوطء عليه.
وقوله تعالى: {وقومهما لنا عابدون} أي دائنون، وكل من دان لملك فهو عابد له. وقال ابن الانباري: فلان عابد، وهو الخاضع لله المستسلم المنقاد لأمره.
وقال ابن سِيدة: أصل العبادة في اللغة التذليل، والعبادة والخضوع والاستكانة قرائب في المعاني ، وكل خضوع ليس فوقه خضوع فهو عبادة، طاعة كان للمعبود أو غير طاعة، وكل طاعة لله على جهة الخضوع والتذلل فهي عبادة، والعبادة نوع من الخضوع لا يستحقه إلا المنعم بأعلى أجناس النعم كالحياة والفهم والسمع والبصر. والشكر والعبادة لا تستحق إلا بالنعم، لأن أقل القليل من العبادة أكبر من أن يستحقه، إلا من كان له أعلى جنس من النعمة، فلذلك لا يستحق العبادة إلا الله تعالى. (7) يستفاد من أقوال هؤلاء اللغويين أن لفظ العبادة يستعمل في العربية للدلالة على معاني الخضوع والطاعة والتذلل والتألُّه والتنسك.
وبين ابن سيدة أن لفظ العبادة مقارب في المعنى للفظي الخضوع والاستكانة، وأوضح أن كل خضوع تام يُعدّ عبادة، وإن لم تكن معه طاعة، وذلك حينما يكون الخضوع للمعبود تلقائياً، من غير أن يكون منه أمر يقتضي الطاعة، وبيَّن أيضاً أن العبادة نوع خاص من الخضوع لا يستحقه إلا المنعم بأعلى أجناس النعم. واستنتج من ذلك أن العبادة لا يستحقها إلا الله تعالى.
وحرصاًً على إظهار مثل هذه الفروق الدقيقة، ذهب الراغب الأصفهاني إلى التفرقة بين كلمتي: " العبودية" و" العبادة" فقال إن العبودية إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها، لأنها غاية التذلل ولا يستحقُها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى، ولهذا قال سبحانه {أمر ألا تعبدوا إلا إياَّه }(8).
وذكر الراغب الأصفهاني أن العبادة ضربان: 1 ـ عبادة بالتسخير، وهي خضوع سائر الكائنات لإرادة الله وقدرته، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: {وإنّ من شيء إلا يُسَبّحُ بحمدِه } (9)، 2 ـ عبادة بالاختيار، وهي عبادة المكلفين من العقلاء، وهي المأمور بها في قوله: تعالى : {يا أيها الناس اعبدوا ربكم}(10).
وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يحرص أشد الحرص على تنقية لفظ العبادة واستعمالاته من المعاني التي علقت به في كلام العرب قبل الإسلام. لذلك قال، كما في حديث أبي هريرة: >لا يقل أحدكم عبدي وأمتي، وليقل فتاي وفتاتي<(11). ونهى، صلى الله عليه وسلم، كذلك أن يقول العبد لسيده ربي(12)، وذلك ليرسخ في نفوس المؤمنين أن الله تعالى هو رب العباد ، وأنهم، متساوون في عبوديتهم له، ولينزع من نفوسهم الشعور بالاستكبار على ما ملكت أيمانهم.
حقيقة العبادة شرعاً
هي غاية الخضوع والانقياد لله سبحانه وتعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والانشغال به بالجنان بالتفكر، أو بالجنان واللسان بالتدبر والذكر، وبسلوك المسالك المحببة إليه عن رغبة وحب، فهي تشمل الامتثال والانقياد من جهة، والشوق والمحبة والتذلل، من جهة ثانية(13).
وتتبع أبو الأعلى المودودي، معاني كلمة "العبادة" في القرآن، فانتهى إلى أنها جاءت فيه بمعان أربعة:
1. بمعنى العبودية والطاعة.
2. بمعنى الطاعة.
3. بمعنى التألُّه.
4. بمعنى العبودية والطاعة والتأُّله.
وختم استقراء هذه المعاني القرآنية، بالإشارة إلى أن القرائن هي التي تحدد المعنى المراد في كل موضع، قال : "فليس من الصعب على ذي عينين أن يتفطن إلى أنه حيثما ذكرت في القرآن عبادة الله تعالى، ولم تكن في الآيات السابقة أو اللاحقة مناسبة تحصر العبادة في معنى بعينه من المعاني المختلفة للكلمة، فإن المراد بها في جميع هذه الأمكنة معانيها الثلاثة<(14).
ثم بيّن المودودي أن دعوة القرآن هي أن تكون العبودية والطاعة والتأّله جميعا خالصاً لوجه الله تعالى. وخلص إلى أن حصر معاني كلمة العبادة في معنى بعينه هو في الحقيقة حصر لدعوة القرآن في معان ضيقة، وأن من نتائج ذلك الحصر، أن من آمن بدين الله، وهو يتصور دعوة القرآن هذا التصور الضيق المحدود، فإنه لن يتبع تعاليمه إلا اتباعا ًناقصاًًً(15).
ويقصد المودودي بهذا البيان، أن عبادة الله تعالى ليست محصورة في التأُّله والتنسك، وهو القيام بالشعائر التعبدية من صلاة وزكاة وصيام وحج وأذكار. وأن من اعتقد أنه إذا قام بأداء هذه الشعائر فقد أدى حق العبودية لله تعالى، فإنه مخطئ في اعتقاده، وفي فهم حقيقة العبادة في الإسلام.
ومن الذين نظروا إلى مفهوم العبادة في الإسلام بشيء من التعمّق الشيخ محمد عبده، وذلك عند تفسير قوله تعالى : {إياك نعبد} حيث استعرض ما قيل في بيان معناها وحقيقتها، وأشار إلى ما فيه من الإجمال والتساهل وقلة التدقيق، وقال : >إننا إذا تتبعنا القرآن وأساليب اللغة واستعمال العرب لـ "عبد" وما يماثلها، أو يقاربها في المعنى كخضع وخنع، وأطاع، وذل، نجد أنه لا شيء من هذه الألفاظ يضاهي "عبده" ويحل محلها، ويقع موقعها". ثم استدل على هذا الرأي بقول المحققين إن لفظ "العباد" مأخوذ من العبادة، ولذلك كثرت إضافته إلى الله تعالى، وإن لفظ العبيد مأخوذ من العبودية، بمعنى الرق، ولذلك كثرت إضافته إلى غيره تعالى، وأوضح أن معنى العبادة الشرعية يشتمل على معنى زائد على الخضوع والطاعة والمحبة، وهو ما يستشعره قلب العابد من عظمة وتعظيم للمعبود الحق لا يعرف كنهه، أي كنه ذلك التعظيم.
فالإحساس بعظمة المعبود مع العجز عن إدراك كنه تلك العظمة والإحاطة بماهيتها من المعاني الخفية التي تشتمل عليها العبادة بمفهومها الإسلامي ـ فيما ذهب إليه الشيخ محمد عبده. وقد شرح ذلك المعنى بقوله. " تدل الأساليب الصحيحة والاستعمال العربي الصراح على أن العبادة ضرب من الخضوع بالغٌ حد النهاية ، ناشئ عن استشعار القلب عظمة في المعبود لا يعرف منشأها، واعتقاده بسلطة لا يدرك كنهها وماهيتها، وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به، ولكنها فوق إدراكه.
فمن ينتهي إلى أقصى الذل لملك من الملوك لا يقال عبده، مادام سبب الذل معروفاً وهو الخوف من ظلمه المعهود، أو الرجاء في كرمه المحدود، اللهم إلا بالنسبة إلى الذين يعتقدون أن المُلْكَ قوة غيبية سماوية أفيضت على الملوك من الملإ الأعلى<(16).
نخلص من هذا العرض الموجز لأقوال العلماء في حقيقة العبادة شرعاً، إلى أن الإسلام اختار لهذا المعنى من بين ألفاظ اللغة العربية لفظ "العبادة"، لأنه أقرب الألفاظ إلى المعنى الشرعي، ثم ضمنه معاني أخرى شرعية، فصار يشمل معاني الذل والخضوع والطاعة الكاملة، ويشمل كذلك غاية المحبة وتمام التعظيم، وكذلك التأله والتنسك والتقرب، وتوحيد الله تعالى بكل هذه المعاني.
مفهوم العبادة في الإسلام واسع
العبادة في الإسلام هي الخضوع التام لله تعالى وطاعته وابتغاء مرضاته، والإيمان بأنه تعالى هو وحده المعبود الحق الذي يستحق العبادة، وأي فعل يفعله العبد خضوعاً لله وابتغاء مرضاته، سواء أكان الفعل من الشعائر التعبدية المعهودة كالصلاة والزكاة أم من أعمال التجارة والزراعة والصناعة، أم من السلوك والآداب والمعاملات، فهو في التصور الإسلامي عبادة،فالتصور الإسلامي للعبادة واسع جداً.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية، عن حقيقة العبادة، وفروعها، وهل مجموع الدين داخل فيها؟، فأجاب إجابة مفصلة نختصر منها ما يدل على أن لها معنىً واسعــاً. قــال: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك من العبادة...< . وأدخل في مفهوم العبادة الأسباب الدنيوية المشروعة، فقال في عبارة مجملة: > فكل ما أمر الله به عباده من الأسباب فهو عبادة<(17).
العبادة خضوع ومحبة وتعظيم
وأوضح ابن تيمية، أن العبادة تدل في أصل استعمالها، على معنى الذل والخضوع، ومن ذلك قيل طريق معبد، إذا كان مذللاًً قد وطئته الأقدام، ثم بين أن المعنى الشرعي للعبادة يتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له.
"ومن خضع لإنسانٍ مع بغضه له لا يكون عابداً له، ولو أحب شيئاً، ولم يخضع له لم يكن عابداًً له، كما قد يحب الرجل ولده وصديقه، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء (18).
وتابع ابن القيم رأي شيخه في جعل المحبة جزءاًً أصيلاًً من العبادة بمعناها الشرعي، بل ذهب أبعد من شيخه، فجعل محبة الله أصل العبادة، قال:"فالله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته الجامعة لكمال محبته مع الخضوع له والانقياد لأمره، فأصل العبادة محبة الله بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله، فلا يحب معه سواه وإنما يحب لأجله وفيه، كما يُحَبُّ أنبياؤه ورسله وملائكته وأولياؤه، فمحبتنا لهم من تمام محبته، وليست محبة معه كمحبة من يتخذون من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله... .
وإذا كانت محبته هي حقيقة عبادته وسرها، فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه، فعند اتباع الأمر واجتناب النهي، تتبين حقيقة العبودية والمحبة.
ولهذا جعل الله تعالى اتباع رسوله ـ صلى الله عليه وسلم، عَلَماًً عليها وشاهداًًً لمن ادعاها، فقال تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يُحْببِكم الله}.
"ودل على أن متابعة الرسول، صلى الله عليه وسلم، هي حب الله ورسوله وطاعة أمره، ولا يكفى ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما"(19).
غلط بعض المستشرقين
زعم بعض المستشرقين أن عبادة المسلمين تقوم على الخوف والخضوع وحده، ولا مجال فيها لحب الله تعالى، وأن الله في تصوّر المسلمين إله قهر وجبروت، لا إله رحمة وحب، وزعموا أن المسلمين لم يعرفوا الإحساس بالحب في صلتهم بالله إلا بعد انتشار التصوف الذي اقتبس هذا التصور من مصادر أجنبية عن الإسلام.
وقد أوضح الشيخ يوسف القرضاوي، بطلان هذا الزعم، وساق ما ذكره الإمام الغزالي في بيان الأدلة الشرعية على أن حب العباد لله تعالى فريضة إسلامية أصيلة(20).
ومن تلك الأدلة إجماع الأمة على أن حب الله تعالى ورسوله فرض، ومنها قوله تعالى. {يا أيها الذين آمنوا من يََرْتَّد منكم عن دينهِ فسوف يأتِ اللهُ بقومٍ يحبُّهم ويحبُّونه أَذِلةٍٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين} (21).
وقوله تعالي : {ومن الناس من يتخذ من دون اللَّه أنداداً يحبُّونهم كحبِ الله والذين آمنوا أشد حبّاًً للهِ }(22).
ومنها أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل كمال حُبِّ الله ورسوله من شروط الإيمان، فقال: >لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما <(23).
وفي دعائه، صلى الله عليه وسلم: > اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك، وحب ما يقربني إلى حبك، واجعل حبك أحب إلي من الماءِ والبرَدَ<.
فهذه أدلة قاطعة تبطل زعم المستشرقين وغيرهم، وتؤكد أن المحبة جزء أصيل من العبادة في الإسلام.
إن أنشطة الإنسان وأعماله تندرج كلها ضمن المعنى الواسع للعبادة، إذا كانت على منهج شرع الله، واقترنت بنية صالحة، إذا طهر الإنسان كلامه من الفحش والزور والأذى واللغو، وتكلم بالصدق والإحسان، وفعل ذلك كله لأن الله أمر به، كان ذلك عبادة.
وإذا أطاع الله تعالى ظاهراًً وباطناًً في أعماله التجارية والاقتصادية، وطبق أحكامه في معاملاته مع والديه وأقاربه وأصدقائه، ومع كل الذين يتعامل معهم، كان كل ذلك عبادة.
وإذا أعان فقيراً أو محروماً، أو أطعم جائعاً وأعان منكوباًً، وفعل كل ذلك ابتغاء مرضاة الله، فذلك عبادة. وباختصار كل أعمال المؤمن عبادة، إذا كانت مطابقة لشرع الله، وكانت بنية طاعة الله وابتغاء مرضاته.
أوضح الشيخ القرضاوي، هذا المعنى بعبارة أكثر وضوحاً، فقال: >إن كل عمل اجتماعي نافع يعده الإسلام عبادة من أفضل العبادات، مادام قصد فاعله الخير وابتغاء مرضاة الله، لا تصيد الثناء والرياء والسمعة، كل عمل يمسح به المؤمن دمعة محزون، أو يخفف به كربة مكروب، أو يضمد به جراح منكوب أو يسد به رمق محروم، أو يشد به أزر مظلوم، أو يقيل به عثرة مغلوب، أو يقضي به دين غارم مثقل، أو يأخذ بيد فقير متعفف ذي عيال، أو يعلم جاهلاً، أو يهدي حائراًً، أو يسوق نفعاًً إلى ذي كبد رطبة، فهو عبادة وقربة إلى الله تعالى<.
واستدل على أن مثل هذه الأعمال من أفضل العبادة بقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يبين فَضْلَ الإصلاح بين المتخاصمين: > ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة، قالوا: بلى، قال: إصلاحُ ذاتِ البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، وزاد في رواية: لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين(24)<.
وتعجب، القرضاوي من كون الإسلام يجعل عمل الإنسان لكسب معاشه عبادة، وساق حديث كعب بن عجرة، قال. "مر على النبي، صلى الله عليه وسلم، رجل فرأى أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من جََلدِهِ ونشاطه، فقالوا يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله، فقال: إن كان خرج يسعى على أولاد صغار فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة، فهو في سبيل الشيطان"(25).
ولاحظ بحق أن القرآن يطلق على السعي في مناكب الأرض بطلب الرزق تسمية جميلة، توحي برضا الله على ذلك السعي فسماه " الابتغاء من فضل الله"، مثل قوله تعالى: {فإذا قُضيتِ الصَّلاةُ فانتشرِوا في الأرضِ وابتغُوا من فضل الله}(26). وقوله سبحانه: { ليس عليكم جُناح أ ن تبتغوا فضلا ًمن ربكم}(27). وتنبه د. يوسف القرضاوي بذكاء إلى أن القرآن الكريم يقرن بين المسافرين لطلب الرزق والمجاهدين في سبيل الله في سياق واحد، كما في قوله تعالى: {عَلِمََ أنْ سيكونُ منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيلِ اللهِِ}(28) .
وذكر القرضاوي أن من روعة الإسلام أن تشمل العبادة الحاجات الضرورية التي يؤديها المسلم استجابة لدافع الغريزة البشرية، فالأكل والشرب ومباشرة الزوج لزوجته، وما كان من هذا القبيل، يدخله الإسلام في دائرة العبادة الفسيحة بشرط واحد هو النية، فالنية هي المادة السحرية العجيبة التي تضاف إلى المباحات و العادات فتصنعُ منها طاعات وقربات"(29).
وأجمل القرضاوي القول في هذه النقطة، وأكد أن العبادة تَسَعُ الحياة كلها وتنتظم أمورها قاطبة من أدب الأكل والشرب وقضاء الحاجة إلى بناء الدولة وسياسة المال، وشؤون المعاملات والعقوبات، وأصول العلاقات الدولية في السلم والحرب.
ثم انتهى اقرضاوي إلى تحقيق مفهوم العبادة في الإسلام، وتصحيح ما دخل على هذا المفهوم الواسع من سوء فهم في أذهان كثير من الناس. قال : "وبهذا تتضح لنا حقيقة هامة لا يزال يجهلها الكثير من المسلمين، فبعضهم لا يفهم من كلمة العبادة، إذا ذكرت إلا الصلاة والصيام والصدقة والحج والعمرة، ونحو ذلك من الأدعية والأذكار، ولا يحسب أن لها علاقة بالأخلاق والآداب والنظم والقوانين، أو العادات والتقاليد<.
"إن عبادة الله ليست محصورة في الصلاة والصيام والحج، وما يلحق بها من التلاوة والذكر والدعاء، كما يتبادر إلى فهم كثير من أبناء المسلمين، إذا دُعوا إلى عبادة الله، وكما يحسب كثير من المتدينين أنهم إذا قاموا بهذه الشعائر فقد قاموا بحق الألوهية، وأدَّوا واجب العبودية لله كاملاً، إن هذه الشعائر العظيمة والأركان الأساسية في بناء الإسلام، على منزلتها، إنما هي جزء من العبادة التي يريدها الله من عباده. والحق أن دائرة العبادة التي خلق الله لها الإنسان، دائرة رحبة واسعة<(30).
العبادة تشمل النشاط الروحي والمادي
إن شمولية العبادة لسائر أنشطة الإنسان وأعماله، وتداخل الأعمال الدنيوية مع الأعمال التي يراد بها وجه الله وثواب الدار الآخرة، من المزايا التي امتاز بها الإسلام. إن الإسلام يوحد في حياة الإنسان بين مطالب الروح ومطالب الجسد في عمل واحد.
وهذه ميزة لا توجد في الديانات الأخرى، والذين أمضوا شطراً من حياتهم في ديانة أخرى، ثم اعتنقوا الإسلام، يدركون هذه الحقيقة، ويعبرون عنها في كتاباتهم عن الإسلام، كما فعل العالم النمساوي الأصل المسلم محمد أسد، فقد أبرز اختلاف مفهوم العبادة في الإسلام عما عرفه في الأديان الأخرى ، فقال : "يختلف إدراك العبادة في الإسلام عما هو في كل دين آخر. إن العبادة في الإسلام ليست محصورة في أعمال من الخشوع الخالص كالصلاة والصيام مثلاً، ولكنها تتناول كل حياة الإنسان العملية أيضاً، ولذلك كانت الغاية من حياتنا على العموم، عبادة الله، فيلزمنا حينئذ، ضرورة ـ أن ننظر إلى هذه الحياة في مجموع مظاهرها كلها على أنها تَبِعَةٌ معنوية متعددة النواحي. وهكذا يجب أن نأتي أعمالنا كلها، حتى تلك التي تظهر تافهة، على أنها عبادات، وأن نأتيها بوعي، ونية صالحة... <.
>إن موقف الإسلام في هذا الصدد لا يحتمل التأويل، إنه يعلمنا أن عبادة الله الدائمة، المتمثلة في أعمال الإنسان المتنوعة، هي معنى الحياة نفسها، ويعلمنا ثانياً أن بلوغ هذا المقصد يظل مستحيلاًً مادمنا نقسم حياتنا قسمين اثنين، حياتنا الروحية، وحياتنا المادية<.
>يجب أن تقترن هاتان الحياتان في وعينا وفي أعمالنا، لتكون كلاً واحداً متسقاً. هناك نتيجة منطقية لهذا الاتجاه هي فرق آخر بين الإسلام وبين سائر النظم الدينية المعروفة، ذلك أن الإسلام، لا يكتفي بتحديد الصلات والعلاقات بين العباد وخالقهم، ولكن يهتم أيضاً بالصلات والعلاقات الدنيوية بين الفرد وبيئته الاجتماعية. ومن بين سائر النظم الدينية، نرى الإسلام وحده يعلن أن الكمال الإنساني ممكن في الحياة الدنيا، إن الإسلام لا يؤجل هذا الكمال إلى ما بعد إماتة الشهوات الجسدية، ولا هو يعدنا بسلسلة متلاحقة من تناسخ الأرواح، على مراتب متدرجة ـ كما هو الحال في الهندوكية. كلا إن الإسلام يعلن أن الإنسان يستطيع بلوغ الكمال في حياته الدنيا، وذلك بأن يستفيد استفادة تامة من وجوه الإمكان الدنيوي في حياته هو"(31).
أبرز محمد أسد مجموعة من المزايا والخصائص التي تمتاز بها العبادة في الإسلام عن العبادة في غيره من الديانات، منها أن العبادة في الإسلام تشمل الحياة كلها، وليست محصورة في الشعائر والصلوات التي تكون بين الإنسان وربه، كما في بعض الديانات التي حصرت العبادة في الصلوات والتراتيل التي تقام في المعابد والصوامع، فإذا فرغ العابد من صلاته وخرج من المعبد، دخل إلى مجال الحياة العملية بمقاييس الدنيا، لا يتقيد في أعماله وأخلاقه بتعاليم الدين، ويتصرف بمنطق المصلحة الدنيوية. وهدفه أن يشبع رغباته، ويكثر أرباحه ولا حرج عليه.
عبر عن هذا المعنى بوضوح المفكر الإنجليزي عبد الله أرشيبالد هاملتون (Abdella Archibald) إذ قال: >بينما يهدي الإسلام الإنسانية في الحياة العملية اليومية، نرى بعض الديانات تعلم أتباعها بطريقة غير مباشرة بتعاليمها النظرية، وبطريقة لا تتغير في أعمالها التطبيقية، أن يصلوا لله أيام الأحد، وأن يتعاملوا بلا قيود باقي أيام الأسبوع< (32).
ومن مزايا الإسلام التي ترتبت على شمولية العبادة، أنه يوحد بين الحياة الروحية والمادية للإنسان، بمعنى أنه يعلم الناس أن يلبوا مطالبهم الروحية من خلال القيام بأعمالهم المادية والدنيوية، وهذه من أهم مزايا الإسلام، إنه لا يقسم حياة الإنسان إلى قسمين منفصلين، قسم مادي، وقسم روحي، إنه ينظر إلى حياة الإنسان على أنها وحدة، لا ينكر حاجات الإنسان المادية، ولا يدعو إلى الرهبانية أو تعذيب الذات، إن الإسلام يعلم أبناءه أن السمو الروحي المطلوب يتحقق عن طريق الحياة الواقعية على الأرض، بشرط الالتزام بالفضيلة والتقوى، يقول الله عز وجل: {ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِِ حسنةًً}(33). ويعلمهم كذلك أن عليهم حقاً لأنفسهم، وحقاً لزوجاتهم.
ومن مزايا الإسلام التي تمثّل ثمرة من ثمار شمولية العبادة لحياة الإنسان، أنه يعلن ـ كما قال محمد أسد ـ أن الكمال الإنساني ممكن التحقق في الحياة الدنيا، عن طريق الممارسة الكاملة لمطالبها المادية والروحية. إن الإسلام يأخذ بيد الإنسان في رفق، ويعينه على الارتقاء في مدارج الرقي الروحي ولا يعنفه ولا يرهقه، يعلمه أن السمو الروحي لا يقتضي تعذيب النفس أو تعذيب الجسد. وهذا من يسر هذا الدين وموافقته للفطرة الإنسانية.
وهناك مزايا أخرى، وآثار طيبة لشمولية العبادة، سنعود إلى تفصيلها في فقرة لاحقة من هذا الفصل.
هذا المفهوم الواسع للعبادة، هو الذي يناسب الحقيقة الكبرى التي دلَّ عليها قول الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدونِ}(34).
فقد دلت هذه الآية على أن هناك غاية معينة لوجود الجن والإنس، ووظيفة محددة، هي العبادة، أوهي العبودية لله تعالى. ومن هذه الآية يتبين كذلك أن مدلول العبادة لابد أن يكون أوسع وأشمل من مجرد إقامة الشعائر التعبدية. فالجن والإنس لا يقضون حياتهم في إقامة الشعائر، في الصلاة والصيام والأذكار.. والله تعالى لا يكلفهم هذا، وهو يكلفهم ألواناً أخرى من النشاط تستغرق معظم حياتهم.
فالإنسان مكلف بالخلافة في الأرض، وهي تقتضي ألواناً كثيرة من النشاط الحيوي في عمارة الأرض والتعرف إلى طاقاتها، وتحقيق إرادة الله في استخدامها وتنميتها، كما تقتضي الخلافة القيام على تنفيذ شريعة الله في الأرض.
ومن ثم يتجلى أن معنى العبادة، التي هي غاية الوجود الإنساني، أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى، أوسع وأشمل من مجرد الشعائر، وأن وظيفة الخلافة عن الله داخلة في مدلول العبادة قطعاً، وأن العبادة تتمثل في أمرين رئيسين:
الأول: هو استقرار معنى العبودية في النفس، أي الشعور بعبودية الإنسان لربه، وأن ليس هناك إلا هذا الوضع، وهذا الاعتبار، ليس في هذا الوجود إلا رب واحد، والكل له عبيد.
²والثاني: هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير، وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة، التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر.
بهذا وذاك يتحقق معنى العبادة، ويصبح العمل الدنيوي كالشعائر، والشعائر كعمارة الأرض، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد، والرضا بقدر الله، كلها عبادة وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها.
تَقََلُّصُ مفهوم العبادة وآثارهُ السيئة:
لقد بينا فيما تقدم أن العبادة شاملة لأنشطة الإنسان وأعماله كافة، وأوضحنا أن هذا هو المفهوم الذي أعطاه الإسلام لهذه الكلمة.
والحق أن هذا المعنى هو الذي فهمه العربي الذي خوطب بهذا القرآن أول مرة في مكة، لم يكن ذلك العربي يحصر مدلول لفظ العبادة في أداء الشعائر التعبدية، بل إن الشعائر لم تكن قد فرضت يوم خوطب بها أول مرة.
إنما كان يفهم منه أن المطلوب منه هو الدينونة لله وحده في أمره كله، وخلع الدينونة والخضوع لغير الله من عنقه في أمره كله، ولقد فسر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، العبادة نصَّا بأنها هي " الاتباع"، أي اتباع الأوامر والتعاليم في شؤون الحياة العملية، وليست هي الشعائر التعبدية وحدها. فسر العبادة بهذا المعنى، وهو يقول لعدى بن حاتم عن اليهود والنصارى واتخادهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله: بلى إنهم أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم.
ذوى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير ـ من طرق ـ عن عدي بن حاتم، رضي الله عنه، أنه لما بلغته دعوة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأُسِرت أخته وجماعة من قومه. ثم مََنَّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على أخته وأعطاها ، فرجعت إلى أخيها، فرغبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقدم عدي إلى المدينة ـ وكان رئيساًً في قومه، وأبوه هو حاتم الطائي المشهور بالجود، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفي عنقه صليب فضة، وهو يقرأ هذه الآية: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دونِِ اللهِِ}(35)، قال حاتم فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال صلى الله عليه وسلم >بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم<.
وهذا الحديث دليل على أن الخضوع لشرع الله والانقياد لأحكامه في الحلال والحرام، وفي الحدود والمعاملات وفي الآداب والعادات من العبادة، فمن أدى الشعائر وصلى وصام وحج واعتمر، ولكنه رضي أن يحتكم في شؤون حياته الخاصة والعامة، أو في شؤون المجتمع والدولة إلى غير شرع الله وحكمه، فقد عبد غير الله.
إن القرآن الكريم دَمَغَ أهل الكتاب بالشرك وذمهم بأنهم عبدوا أحبارهم ورهبانهم، واتخذوهم أرباباً من دون الله، وذلك حين أطاعوهم واتَّبعُوهُم فيما شرعوا لهم مما لم يأذن به الله (36).
إن العبادة في الإسلام تشمل الشعائر الدينية التي فرضها الله، عز وجل، وجعلها أركاناًً لدينه، وحدد مقاديرها ومواقيتها، وتشمل كذلك النوافل التي سنها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسائر ما يتقرب به العبد إلى ربه، كما تشمل المعاملات بين الناس، والأعمال الاقتصادية والاجتماعية، وتشمل الأخلاق والآداب، غير أن هذا المفهوم تقلص في تصور كثير من المسلمين، وصاروا يحصرون العبادة في الصلاة والصيام والحج والعمرة والأذكار، أو فيما يكون بين العبد وربه. ويرجع السبب في تقلص هذا المفهوم لدى كثير من المسلمين، إلى اصطلاح الفقهاء على تقسيم الأحكام الشرعية العملية إلى عبادات ومعاملات، هذا التقسيم لم يكن معروفاًً في العصور الأولى من الإسلام، وإنما استحدثه الفقهاء المتأخرون في كتبهم لمجرد الترتيب والتصنيف العلمي.
لقد كانت الطريقة المثلى في الفقه هي الطريقة التي اتبعها السلف الصالح، رضي الله عنهم، لقد عرفوا، وهم على حق ـ أن مَََهمَّتهم إنما هي جمع الأحاديث النبوية في كل مجال، وتنسيقها وتبويبها وتقسيمها إلى فصول وفقرات تنتظمها جميعاً وحدة مترابطة هي الحياة الإسلامية. والحياة الإسلامية لا تنقسم إلى ميادين منفصلة، إنها وحدة متماسكة، ومن هنا كانت هذه الكتب الأولى في الفقه تبدأ بالحديث عن الوحي والعلم والإيمان، تم تمضي في عرض الأحاديث النبوية في شتى مجالات الحياة، وإذا تصفحنا كتاباًً مثل الموطأ للإمام مالك، رضي الله عنه، وهو كتاب فقه، بل هو كتاب الفقه المثالي، فإننا نجد فيه فصلاً عن حسن الخلق، وفصلاً يطول عن صفة الرسول صلى الله عليه وسلم، للتأسي به ومتابعته في أخلاقه وسلوكه، وفصلاً عن الرؤيا، وفصلاًً عن العلم... الخ.
كان الفقه الإسلامي صورة كاملة لحياة المسلم على صورتها الصحيحة، وفي ترابطها الذي لا انفصام له ولا انفكاك. كان شرحاً للإسلام وتفصيلاً للإيمان، والإسلام هو الصورة التي أحبها الله للحياة الإنسانية في جميع مجالاتها، والإيمان في وحدته التامة شَعَبٌ كثيرة.
غير أن الفقهاء المتأخرين قسموا أبواب الفقه إلى قسمين منفصلين، قسم يسمى فقه العبادات، وقسم يسمى فقه المعاملات، يضم القسم الأول صفة العبادات التي شرعها الله تعالى، وبيَّن رسوله، صلى الله عليه وسلم، صفتها ومواقيتها ومقاديرها.
والقسم الثاني يشمل الأحكام الشرعية التي تنظم المعاملات والعلاقات بين الناس في حياتهم ومعايشهم ومبادلاتهم. وقصد الفقهاء من هذا التقسيم التيسير على طلاب العلم في تحصيل المعرفة بالأحكام الشرعية مبوبةً بحسب الموضوعات، وكذلك التيسير على الحكام، وهم بصدد تنظيم المجتمع وضبطه وفقاً لمبادئ السياسة الشرعية.
هذا التقسيم له ما يسوغه من جهة التصنيف والبحث العلمي، والتخصص في الاجتهاد، والتيسير على الحكام في القيام بمسؤولياتهم في ضبط مسيرة المجتمع على معايير، فينبغي أن لا يكون ذلك التقسيم دافعاً لبعض العامة من الناس إلى الاعتقاد في أن صفة "العبادة" خاصة بالقسم الأول من النشاط الإنساني الذي يتناوله فقه العبادات، وأن هذه الصفة تضعف بالقياس إلى القسم الثاني من النشاط الإنساني الذي يتناوله فقه المعاملات. إن في مثل هذا الاعتقاد انحرافاً بالتصوّر الإسلامي يتبعه انحراف في الحياة الإسلامية كلها، لأن أنواع الأنشطة التي أطلق عليها الفقهاء اسم العبادات، حين تراجع في مواضعها من القرآن الكريم، يتبين أنها لم تجيء منفردة ولا معزولة عن أنواع الأنشطة الأخرى التي أطلق عليها العلماء اسم المعاملات، إنما جاءت هذه وتلك مرتبطة في السياق القرآني ومرتبطة في المنهج التوجيهي، باعتبار هذه كتلك شطراًً من منهج العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني، وتحقيقاً لمعنى العبودية، ومعنى إفراد الله سبحانه وتعالى بالألوهية.
ومن أوضح الأمثلة على هذا الترابط قوله تعالى : {وعبادُ الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً* والذين يبيتون لربهم سُجَّداً وقياماً* والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً * إنها ساءت مستقراً ومُقاماً* والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قَواماً* والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما يضاعفْ له العذاب يوم القيامة وَيخْلُدْ فيه مُهاناً * إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتِهم حسناتٍ وكان الله غفورًا رحيماً *والذين لا يشهدون الزورَ وإذا مروا باللغو مرُّوا كراماً} (37). هذه صورة عباد الرحمن كما رسمها القرآن الكريم، تتكون من خطوط وألوان من النشاط الإنساني. متآلفة تشمل الأخلاق والشعائر التعبدية والمعاملات، والعادات في سياق واحد، تشمل التواضع والإعراض عن الجاهلين، وإمضاء الليالي في العبادة سجوداً وقياماًً، والخوف من عذاب الله، والاعتدال في الإنفاق، والإخلاص في عبادة الله، وتجنب قتل النفس، وترك الزنا وتجنب شهادة الزور، وتجنب الاشتغال باللغو، والاستجابة الكاملة لآيات الله إذا ذكروا بها.
وان الحديث في القرآن عن الصلاة والطهارة إلى جانب الحديث عن الطيبات من الطعام، والطيبات من النساء، وإنَّ ذكر حكم الطهارة إلى جانب أحكام الصيد والإحرام والتعامل مع الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام ـ كما هو في سياق سورة المائدة مثلاً ـ لا يجيء اتفاقاًً ولمجرد السرد. إن أحكام الطهارة والصلاة كأحكام الطعام والنكاح، كأحكام الصيد في الحل والحرم، كأحكام التعامل مع الناس في السلم والحرب، كبقية الأحكام كلُّها عبادة، وكلها دين الله، فلا انفصام في هذا الدين بين ما اصطلح أخيراً في الفقه على تسميته"بأحكام العبادات"، وما اصطلح على تسميته"بأحكام المعاملات"، هذه التفرقة التي اصطنعها الفقه، حسب مُقْتَضياتِ التصنيف والتبويب، لا وجود لها في أصل المنهج الرباني، ولا في أصل الشريعة الإسلامية. إن هذا المنهج يتألف من هذه وتلك على السواء، وحكم هذه كتلك في أنها تؤلف دين الله وشريعته ومنهجه، وليست هذه بأولى من تلك في الطاعة والاتباع، بل إن أحد الشطرين لا يقوم بغير الآخر، كلها عقود من التي أمر الله بالوفاء بها وكلها عبادات.
والفقهاء لم يكونوا يجهلون هذه الحقيقة عندما اصطلحوا على التقسيم في مؤلفاتهم بين العبادات والمعاملات، إنما أطلقوا لفظ العبادات على الشعائر التعبدية باعتبارها صورة من صور الدينونة لله، لكنها صورة لا تستغرق كل مدلول العبادة.
لقد تقلص مفهوم العبادة في أذهان بعض العامة من الناس، اعتقاداً منهم أنها محصورة في تلك الشعائر، وأن عبادة غير الله التي يصير بها الإنسان مشركاً، هي فقط تقديم الشعائر التعبدية لغير الله، كتقديمها للأصنام والأوثان، وأنه متى تجنب المسلم هذه الصورة فقد بعد عن الشرك، وهذا وهم باطل، بل تبديل وتغيير في المدلول الحقيقي للعبادة، وهو الدينونة الكاملة لله وحده في كل شأن من شؤون الحياة. قال الشيخ القرضاوي، إن ذلك التقسيم، مع مرور الزمن، جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا "مسلمين" إذا هم أدوا نشاط العبادات"، وفق أحكام الإسلام، بينما هم يزاولون كل أنواع المعاملات وفق منهج آخر، لا يتلقونه من الله، ولكن من مصدر آخر، هو الذي يشرع لهم في شؤون الحياة.
وهذا وهم كبير، فالإسلام وحدة لا تنفصم، وكل من يفصمه إلى شطرين، على هذا النحو، فإنما يخرج من هذه الوحدة<(38).
آثار شمول معنى " العبادة في النفس والحياة"
أجمل الشيخ القرضاوي الآثار المباركة لهذا الشمول في أمرين:
لأول: أنه يصبغ حياة المسلم وأعماله كلها بالصبغة الربانية، ويجعله مشدوداً إلى الله في كل ما يؤديه للحياة، وما يقوم به بنية العابد الخاشع ـ وهذا يدفعه إلى الاستكثار من كل عمل نافع وكل إنتاج صالح، فإن ذلك يزيد رصيده من الحسنات، كما يدعوه هذا إلى إحسان عمله الدنيوي، وإتقانه، مادام يقدمه قربة إلى ربه ابتغاء رضوانه.
والثاني: أنه يمنح المسلم وحدة الوجهة، ووحدة الغاية في حياته كلها، فهو يرضي ربا واحداً.. ويتجه إلى هذا الرب بسعيه كله، الديني والدنيوي، لا انقسام ولا صراع ولا ازدواج في حياته.
> إنه ليس ممن يعبدون الله في الليل، ويعبدون المجتمع في النهار. وليس ممن يعبدون الله في المسجد ويعبدون الدنيا والمال في ساحة الحياة<.
وليس ممن يعبدون الله في يوم من أيام الأسبوع، ثم يعبدون ما سواه ومن سواه سائر أيام الأسبوع.
> وبهذا ينصرف همّه إلى الله، ويجتمع قلبه كله على الله، ولا يتوزع شمل حياته وفكره وإرادته ووجدانه بين شتى الاتجاهات والتيارات والانقسامات(39).
ومن مزايا الإسلام تحقيق التوازن في حياة الإنسان بين الروحية والمادية، وهي من الآثار الطيبة لشمولية العبادة. الإسلام يحث الإنسان على العمل الدنيوي الصالح، كما يحثه على العمل لآخرته، ويعلمه أن العمل الدنيوي المادي عبادة وعمل فيه نصيب من الروحانية إذا كان بنية صالحة.
والغالب على الإنسان أن يميل إلى العمل الدنيوي، وينسى حق الله تعالى وحق الحياة الآخرة، وََمهََمَّة العبادات المفروضة، في أوقات محددة يوميا،ً أن تأخذ بيد الإنسان وتُعينه على إعادة التوازن إلى حياته والمحافظة عليه.
وحسبنا أن نقرأ قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نوديَ للصلاة من يوم الجمعة فاسَعوا إلى ذكر ِالله وذروا البيع ذلكم خير لكم إنْ كنتم تعلمون* فإذا قضيتِ الصلاة فانتشروا في الأرضِ وابتغوا من فضلِ الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون}(40).
هذا هو نظام حياة المسلم: عمل وبيع وتجارة، ثم صلاج وسعي إلى ذكر الله وعبادته، ثم انتشار في الأرض وابتغاء من فضل الله، ومواصلة الإكثار من ذكره.
ـــــــــــــــ
(1) سورة الأعراف 172/7 .
(2) سورة الروم 30/30.
(3) الحديث رواه البخاري ومسلم.
(4) التحرير والتنوير، ج 21، ص 92/91.
(5) سيد قطب في ظلال القرآن، ج 6، ص 454.
(6) الإسلام اختيارنا، ص 63 Islam our choice, p. .
(7) لسان العرب، مادة (عبد).
(8) المفردات في غريب القرآن. مادة (عبد).
(9) سورة الإسراء 17/44.
(10) سورة البقرة 21/2.
(11) الحديث رواه البخاري.
(12) رواه مسلم في الأدب، وانظر زاد المعاد 2، ص 352.
(13) اد. يوسف القرضاوي، لعبادة في الإسلام، ص 27.
(14) المصدر السابق.
(15) المصدر السابق.
(16) تفسير سورة الفاتحة من تفسير المنار.
(17) رسالة العبودية، ص 38.
(18) المصدر السابق.
(19) التفسير القيم، ص 65.
(20) العبادة في الإسلام، ص 43.
(21) سورة المائدة 54/5.
(22) سورة البقرة 165/2.
(23) الحديث متفق عليه.
(24) التفسير القيم، ص 65.
(25) رواه الطبراني.
(26) سورة الجمعة 10/62.
(27) سورة البقرة 198/2.
(28) سورة المزمل 20/73.
(29) العبادة في الإسلام، ص ص63 ـ 64.
(30) العبادة في الإسلام، ص 52.
(31) محمد أسد، الإسلام في مفترق الطرق، ترجمة الدكتور عمر فروخ، ص ص23-21. )
(32)Islam Our Choice, p. 24
(33) سورة البقرة 201/2.
(34) سورة الذاريات 56/51.
(35) سورة التوبة31.
(36) العبادة في الإسلام، ص ص54 ـ 55 بتصرف.
(37) سورة الفرقان 72/63.
(38) العبادة في الإسلام، ص 71.
(39) العبادة في الإسلام ، ص 66-65.
(40) سورة الجمعة 62/9-10.
-------------------------------------------------
المصدر:الأبعاد التربوية للعبادة في الإسلام
(مدخل عام)
الدكتور أحمد أبوزيد
منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ـ إيسيسكو ـ 1421هـ/2000م