لمحات بلاغية في آيات قرآنية
رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين..
1- لمحة في قول الحي القيوم:"لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ"
قد يستشكل المرء هذا الترتيب في العطف..فالقاعدة في تنسيق المتدرجات في مقام الإثبات تقديم الأضعف وتأخير الأقوى،على أن يعكس هذا التنسيق في مقام النفي فلا يبدأ إلا بالأقوى ...
هذه القاعدة صحيحة ،واجب إعمالها ،لأن من شأن إهمالها الوقوع في اللغو لا محالة..
فمن قلة العقل أن يقال :"فلان نحرير عالم" أو " هو علامة عالم"... فصفة "عالم" في التعبيرين لغو عند متلقي الخبر لا فائدة فيها...فإن وصف الإنسان بالعالمية ، على المبالغة في التوغل في العلم ،لا يتسق بعده و ذكر العالمية في درجتها العادية..وكذلك لا يستقيم قولك "فلان يعطي المائة والدينار.." بل لا يصح إلا قولك "فلان يعطي الدينار والمائة."
فإن أبيت إلا التمسك بترتيبك الأول فلا مناص لك من تغيير الأسلوب إلى النفي درءا للغو والهذيان...
فيصح لك أن تقول: "فلان لا يعطي مائة ولا دينارا.." فلان ليس علامة ولا عالما"..
وسر المسألة أن المتلقي عندما يطرق سمعه " فلان لا يعطي مائة.."قد يخطر بباله أن هذا الرجل إذا كان يبخل بالشيء الكثير فلعله يجود بالنزر اليسير فيأتي قولك"... ولا دينارا" حسما في الموضوع وفائدة فيه..
وأما في الإثبات "فلان يعطي المائة..." فلا ينبغي للمتكلم إن يستخف بعقل مخاطبه فيظن أن مخاطبه يتساءل- الآن- عما إذا كان هذا المخبر عنه قادر على أن يعطي أقل من المائة بعد أن سمع أنه يعطي المائة!! فتفيده بقولك : والدينارَ!!! فهذه الضميمة لغو أواستخفاف .. .
فإذا استقرت هذه القاعدة عدنا إلى تأمل قوله تعالى:"لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ"
السنة مقدمة النوم أو نعاس خفيف
قال القرطبي رحمه الله :
والسنة : النعاس في قول الجميع . والنعاس ما كان من العين فإذا صار في القلب صار نوماً؛ قال عديّ بن الرقاع يصف امرأة بفتور النظر :
وسْنَانُ أقْصَدَه النُّعاسُ فَرَنَّقَتْ ... في عيْنه سِنَةٌ وليس بنائم
فيكون ذكر انتفاء النوم بعد انتفاء السنة لغوا.. (فهل تقول لمن يخبرك أنه لم يصل بعد إلى بيته وهل وصلت إلى غرفة نومك)
إن الترتيب الموافق للقاعدة أن يقال لا يأخذه نوم ولا سنة...لكن القرآن لم يقل ذلك...!
فكيف نخرج من المشكلة : القاعدة صحيحة والقرآن هو القرآن!
لنعد كرة أخرى إلى آية العرش:"لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ"
فنلحظ أنها لم تنف السنة بل نفت "أخذ السنة" والفرق بين النفيين كبير!
فالمرء قادر على مقاومة النعاس..لكن النوم يطغى فهو أقوى من أي نعاس...
فيقال هنا:هب مقاومة النعاس مستطاع فهل في الوسع مقاومة النوم!!
"لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ"
جاء القرآن وفق القاعدة ..فالنفي لم يسلط على الشيء ومقدمته فيكون ذكر الشيء لغوا..بل هو لتدرج جهد المقاومة فنفي ما يستلزم جهدا قليلا أولا، ثم نفي بعده ما يستلزم جهدا كبيرا ..وهذا موافق للقاعدة كما ترى..وعكس الترتيب:
لا يأخذه نوم ولا سنة..لغومبين...فمن لم يستسلم للأقوى كيف يظن به أنه يستسلم للاضعف!!!
ترقب بعد حين لمحة في قوله "لا يغادر صغيرة ولا كبيرة"
2-لمحة في قوله: لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا..
لسائل أن يسأل:" لم قدم الصغيرة على الكبيرة"؟ ومقتضى البلاغة أن يجعل في الصدارة نفي الأقوى لا الأضعف!
فإذا كان المقصود هو جمع مخازي القوم وإحصاء ما اجترحوه من السيئات، فإن ذكر تسجيل الكبيرة، بعد ذكر الصغيرة ،ليس فيه فائدة ظاهرة لأنه يُعلم أن الكتاب إذا عد الصغائر عليهم فلا بد أن يكون قد عد الكبائرمن باب أولى ..فيكون في ذكر "هذه" بعد "تلك" شائبة تحصيل الحاصل..
ولو ذكر الكبيرة قبل الصغيرة..لجاء العطف أكثر فائدة..فإن المتلقي عندما يسمع:".. هذا الكتاب لا يغادر كبيرة.."لا يكون عنده علم بحال الصغيرة (فلعل الكتاب قد تجاوزها أو لم يسجلها..)فإذا سمع بعد ذلك "..ولا صغيرة ..."استفاد ...
جوابه:
أن المقام هنا ليس لبيان أن الكتاب قد أحاط بكل ما اقترفوه...فيستحسن ذكر الكبائر قبل الصغائر...لكن المقام للتبكيت والتعذيب في العرض...وقد نبهت الآية على هذا المعنى عندما قالت:" مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ" كما نبهت عليه من خلال صرخة الكفار من الضجر والخزي" يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ "
وهذا المقام يقتضي ذكر الصغيرة قبل الكبيرة لوجهين:
1-الصغائر عادة تكون أكثر من الكبائر فيشتد الإسهاب ويطول التقصي وهو مراد لتعذيب أصحابها..
2-ذكر الصغائر على كثرتها سيزيد من التوتر على اعتبار أن هذه أهون مما سيأتي...ولو ذكر الكبائر أولا لفات هذا المعنى..بل سيكون في ذلك شيء من التنفيس على المجرمين ...فالمخازي تصعب أكثر عند ترقبها لا عند مرورها..
فانظر إلى قوة التعبير في القرآن!!
3-لمحة في قوله تعالى:
لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً{107}
نريد أن نقف قليلا عند دلالة تحويل الخطاب، فهذه المسألة لم تنل حقها من التدبر فجل من تعرض لها يذهب إلى أنها تلوين أسلوبي غايته الترويح عن المتلقي: فالخطاب إذا كان على وتيرة واحدة كان مظنة السأم ومن شأن تغير الأساليب وتنوع الالتفاتات أن يطرد الملل عن النفس ويحثها على متابعة القراءة.
هذا الرأي –وهو ليس مخطئا-قاصرمن وجهين:
-تغييب ما هو دلالي في هذه الظاهرة، والاقتصار على المظهر الأسلوبي وحده..
-تعميم هذا الرأي على كل المواضع في القرآن حكما كليا، والحق أنه يجب اعتبار كل موضع بخصوصه.
فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)
سيرى الأسلوبي في هذا الموضع انتقالا من الغيبة إلى الحضور ،ومن الخبر إلى الخطاب وأن المحتوى الدلالي في قوله" لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا" هو نفسه لو قال :ليس فيها عوج ولا أمت...
بيد أن التأمل الدلالي يكشف عن أمور أخرى:فالعلاقة بين القولين ليست من نسبة الترادف وإنما هي من نسبة التباين :
فمحتوى الخبر في عبارة: "ليس فيها عوج ولا أمت..." بيان لصورة الأرض..
ومحتوى الخبر في قوله تعالى: لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا..بيان لإدراك صورة الأرض...
وشتان بين المحتويين:
فأولهما طبيعي والثاني نفسي، و في أولهما افتقار دلالي واضح وفي الثاني غنى لا يحاط به..
وهذا بعض تفصيل:
أرض المحشر خاوية تماما وأن لا يكون فيها عوج أو أمت كناية عن الفراغ المطلق ..وهذا الفراغ الطبيعي يوازيه فراغ دلالي مثله..فأي شيء يمكن أن يقال عن اللاشيء!
لكن الآية حولت جهة المعنى إلى المخاطب من خلال الاستحضار والحضور..
يستحضر المشهد في ذهنه فهو يراه..
وهو نفسه جزء من هذا المشهد حاضر فيه..
واستبطان عملية الإدراك هذه يكشف عن معاني نفسية عميقة هي المقصودة في الآية:
فالعين مفطورة على الاستئناس بالتنوع ويريحها التمايز بين الأشكال والألوان..ولك أن تتصور مدى الانقباض الذي ستمتليء به العين عندما تشاهد المعروض عليها:أرض فسيحة ممتدة على مرأى البصر لا يتميز فيها شيء عن شيء..آلاف الفراسخ لكنها على نمط واحد فلا جبل ولا وهدة ولا واطيء ولا منخفض ولا مرتفع...مشهد يثير الغثيان والرعب!!
وعلى المرء أن يتصور هذا المشهد ليستشعر بهذه الحالات النفسية..وهذا ما نصت عليه الآية "لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا..
ولم يكن المقصود مجرد الإخبار عن استواء المكان.
4-لمحة في قوله تعالى:
" قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ..."
في الآية مطابقة بين "تفرون منه" و"ملاقيكم" ووجه المطابقة أن الفرار يقتضي وجود نقطة في الخلف يبتعد عنها ،والملاقاة تقتضي عكس ذلك أي وجود نقطة في الأمام يقترب منها ...
والطباق عندهم محسن معنوي من فن البديع...لكن الحق أنه في هذه الآية من المبينات لا من المحسنات..!
فلنتأمل المقام عن كثب:
هؤلاء يفرون من الموت -على زعمهم-فيترتب عليه من المعاني ما يلي:
1-المحذور موجود خلفهم..
2-أبعد جهة عن المحذور هي الجهة المقابلة أي الأمام..
3-الإمعان في الاقتراب من "الأمام" هو وحده سبيل النجاة..
ثم تاتي بعد ذلك الصدمة البيانية والنفسية: "فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ" ليفجر من المعاني ما يلي:
1-الفرار من الموت كان في الحقيقة إهراعا إليه..
2-رغبتهم في تغييب الموت كان في الواقع إحضارا له..فهم الآن محاصرون: فالموت خلفهم باعتبار وعيهم وأمامهم باعتبار الوجود..
3-الصدمة القاتلة في خيبة الأمل فمكان النجاة هو عينه مكان الهلاك.
4-المفاجأة المذهلة فقد جاءهم الموت من حيث لا يتوقعون..
خلاصة المسالة أن الطباق في الآية أكبر من تحسين في المعنى..بل هو رصد لمفارقة مذهلة ،وتسفيه لسلوك الكافرين،ومحل لبيان الاستدراج،ومناسبة لإظهار مبدأ الجزاء من جنس العمل.
فأي اختزان في المعنى وأي اختزال في اللفظ!!