لم تكن تونس إلا بداية "ثورة" لا تعرف الحدود ولا تحترم السيادة، ولن تكون مصر نهاية لهذا الفصل الجديد من تاريخ المنطقة العربية. فعندما احترق محمد البوعزيزي في سيدي بوزيد، زلزلت الأرض تحت أقدام مجموع الحاكم والزعماء العرب. وعندما هدأت نسبيا ثورة "الياسمين" في تونس، كانت بذور "ثورات" أخرى تطل برأسها تحت كراسي حكم أخرى في مصر والجزائر والسودان واليمن والأردن... وعندما كان ميدان التحرير في القاهرة يشهد مسيرته المليونية كانت شوارع صنعاء وعمان والخرطوم ودمشق على موعد مع أيام غضب شعبي حددت بداياتها لكن احدا لا يستطيع ان يتكهن بنهاياتها.
فهل استيقظت الشعوب العربية بعد سباتها الطويل الذي بدأ بعيد حصولها على "استقلال" مسيج بالاتفاقيات الاقتصادية والسياسية التي تحفظ مصالح القوى الغربية؟ وهل ان الألوان للحديث عن ثورة عربية" طالما حلم بها فطاحلة القومية والوحدة وتلاميذ الناصرية والبعثية الذين باتوا يحسبون في عداد التراث الثقافي والفكري لشعوب المنطقة؟
احترق محمد البوعزيزي في سيدي بوزيد، فزلزلت الأرض تحت أقدام مجموع الحكام والزعماء العرب. مات البوعزيزي في تونس، فتهاوى نظام دكتاتوري تونس بفعل قوة الأمواج الجارفة للمتظاهرين التونسيين، وتصدعت أسقف وجدران جل الإقامات الفخمة لزملاء الديكتاتورية. وبينما كانت ثلاثة أسابيع من ممارسة التونسيين لما ظل محرما عليهم لعقود، أي التظاهر والإحتجاج ، كافية لإسقاط وإرهاب زين العابدين بنعلي، ودفعه إلى الهروب والبحث عن ملجأ أمن، كان أسبوعان من الترقيب كافيان لحشد عزيمة أكبر شعب عربي من حيث تعداد السكان، وأكثرهم مراكمة للتاريخ السياسي الحافل، خاصة في القرنين الماضيين، هو الشعب المصري.
وفي انتظار خروج الفراعنة من منازلهم للوقوف في ميدان التحرير والمطالبة برحيل "الرئيس"، كانت شوارع الجزائر العاصمة قد اكتوت بنار الثورة التي انطلقت شرارتها من تونس الخضراء ، وازدحمت شوارع العاصمة الأردنية عمان بالمتظاهرين المطالبين برحيل الحكومة والإصلاح السياسي، وغصت شوارع صنعاء اليمنية بالغاضبين من استعداد رئيسهم علي عبد الله صالح لتخليد نفسه في منصب الرئاسة بل واحتمال ثوريته الحكم لأحد أبنائه، فيما اقشعرت أبدان جل الحكام الكاتمين على أنفاس باقي شعوب الدول العربية من المحيط إلى الخليج، وخيط ناظم واحد جمع بين هذه التحركات المتشابهة والمتزامنة، هو انطلاقها من وضع اجتماعي متأجج وناقم على تدهور الأوضاع المعيشية واستفحال الفساد السياسي والريع الاقتصادي... ثم بروز الشعارات السياسية الثورية بمجرد النزول إلى الشارع، والمطالبة برموز النظام مخلوعة ومحاكمة بعد نفاذ صير هذه الشعوب.
فهل استيقظت الشعوب العربية بعد سباتها الطويل الذي بدأ بعيد حصولها على "استقلال" مسيج بالاتفاقيات الاقتصادية والسياسية التي تحفظ مصالح القوى الغربية؟ وهل آن الأوان للحديث عن "ثورة عربية" طالما حلم بها فطاحلة القومية والوحدة وتلاميذ الناصرية والبعثية الذين باتو يحسبون في عداد التراث الثقافي والفكري لشعوب المنطقة؟ هل دبت الحياة أخيرا في حاسة استنشاق هواء الحرية والالتحاق برداء المواطنة الكاملة وممارسة السيادة على الثروات والقرارات والاختيارات؟ أم إنها مجرد فورة غضب فجرتها دغدغة تسريبات موقع وكيليكس حول فضائح الحكام والأنظمة العربية وفسادهم؟
تونس مجرد بداية
بات من البديهي ان ثورة "الياسمين" لن تعترف بالحدود الضيقة لدولة تونس الصغيرة من حيث المساحة، وأن بذور "الياسمين" قد تناثرت في مجموع المنطقة وبدأت في إنبات ورودها الثورية الحمراء. وأول من تأكد من وقوع ذلك هم الحكام والأنظمة العربية بمختلف أشكالها وخصوصياتها. حيث "رفعت الأنظمة العربية فورا من وتيرة القمع وتأطير المعارضة. وفي الوقت نفسه، اتجهت إلى إعطاء ضمانات للمجتمع بإعلان إجراءات خفض أسعار الموارد الغذائية الأساسية "تقول بسمة قدماني، مديرة المبادرة العربية للإصلاح، والتي أكدت أن ذلك يعتبر المبرر الدائم لاستبدادية هذه الأنظمة، "الضرورة الاجتماعية تجعل من الدمقرطة مطلبا غير مستعجل. وفي كل مرة، وباسم هذه الضروريات التعليمية والغذائية والسكن، تلتمس مساعدة ودعم المنظمات الدولية الكبرى مثب البنك العالمي. وإذا قبلت هذه الأنظمة بإصلاح نفسها ووقف سباقها المجنون في اتجاه الليبرالية، فيمكن أن تبقى في الحكم، لنقل ما بين خمس وعشر سنوات".
فيما ذهب المفكر العربي المقيم في فرنسا، برهان غليون، إلى أنه "وبغض النظر عن الاتجاه الذي ستأخذه خلال الأيام والأسابيع القادمة، كتبت الانتفاضة الشعبية في تونس، الفصل الأول من تاريخ العرب الجديد، تاريخ الحداثة السياسية التي لم يعرفوها من قبل، رغم مرور أكثر من قرن ونصف على دخولهم التاريخ الحديث". وأوضح غليون ذلك بقوله إن العرب حققوا نهضة فكرية وثقافية لا شك فيها منذ القرن الماضي، وخاصوا حروب تحرر وطني عنيدة، ولا يزالون يخوضون بعضها في فلسطين وغيرها، وبنوا دولا أو بالأحرى هياكل حديثة لا تزال واقفة على أقدامها رغم ما تعرضت له من هزات عنيفة داخلية وخارجية، وشرعوا في تحولات زراعية وصناعية وعلمية لا تختلف كثيرا عما قامت به الأمم الأخرى... "لكنهم أخفقوا، مجتمعين وكل على حدة، في بناء أمة حديثة، أي جماعة سياسية متحدة، متفاعلة ومتضامنة، يرتبط أعضاؤها برباط المواطنة، وتجمع بينهم إرادة العيش المشترك وتأكيد الكرامة الإنسانية التي لا تستقيم اليوم من غير مساواة حقيقية، وضمان للحريات الفكرية والسياسية التي هي قاعدة المشاركة في الجماعة الوطنية والشعور بالمسؤولية وممارسة حقوق المواطنة، والطموح إلى مشاركة فعالة وإيجابية بحضارة العصر وقيمة الإنسانية". والسبب الأول لذلك الإخفاق في رأي برهان غليون، هو مصادرة "السلطة الاستبدادية" لبراعم الحداثة السياسية التي لا تعني شيئا اخر سوى تحرر الشعب من الوصايات الخارجية، سواء كانت دينية أم سياسية أم ثقافية، وتحقيق سيادته الفعلية، أي حق كل فرد من أفراد الجماعة الوطنية في أن يفكر بنفسه ويشارك، على قدم المساواة ودون إكراه من أي نوع كان، في تقرير شؤونه والشأم والمصير العامين.
وفيما كان الذهول يخيم على شعوب وحكام المنطقة بعدما شاهدوه بالنقل المباشر في تونس، دون حاجة إلى دبابات أمريكية كما جرى في العراق، ولا مواجهات دموية كما هو الحال في العديد من التجارب الثورية، قالتها صحفية "الغارديان" البريطانية بلغة الجزم: "التظاهرات التي عمت تونس احتجاجا على البطالة بين متخرجي الجامعات أظهرت أنه لا تزال هناك إمكانية لحدوث "ثورة" في العالم العربي تؤدي إلى " تغيير أنظمة". وأضافت الصحفية ذات الانتشار والمصداقية الواسعين، إن تونس تقدم واحدة من الحلقات الأكثر إلهاما لثورة شعب ضد "نظام قمعي" حاكم، وأنه "وعلى الرغم من أن تونس بعيدة نسبيا عن الثقافة العربية السائدة فإن الأحداث التي تعم شوارع تونس تنقل على الفضائيات إلى جميع أنحاء العالم العربي. ويتعلق التدفق العاطفي في الشوارع العربية السائدة فإن الأحداث التي تعم شوارع تونس تنقل على الفضائيات إلى جميع أنحاء العالم العربي. ويتعلق التدفق العاطفي في الشوارع العربية، بالأحداث التي تحصل في فلسطين، وكذلك بعض الإهانات التي يتلقونها من الغرب، أو كرة القدم، ونادرا ما يوجه الغضب ضد الجاني الرئيسي: الحكومة ذاتها".
بعد مصر و تونس
لم تكن تونس إلا بداية ل"ثورة"لا تعرف الحدود ولا تحترم السيادة، ولن تكون مصرنهاية لهذا الفصل الجديد من تاريخ المنطقة العربية. ف"عندما ينخر الصدا نظاما ديكتاتوريا من الداخل، فإن شرارة واحدة تكفي لتحيله إلى فئات.نقول حينها إن حلقة واحدة قد سقطت، لذالك فهي الأقوى في السلسلة كلها. و هكذا سقط نظام شرطي سابق و مصففة شعر سابقة، بعد تواتر سلسلة من المعطيات البديهية، معطيات تبناها شعب لم يعد قادرا على تحمل الإهانة و الاحتقار و السرقة و البؤس..."يقول الكاتب المغربي الطاهر بنجلون، ثم يضيف:"وإن ترى رئيس دولة بصحبة جيدة و بشعر مصبوغ و بنظرة ملؤها الرضا، يهرب مثل السارق، يتوسل ملجأ ويلقى الرفض، أن تعلم أن هذا الرجل الذي زرع الرعب في قلب شعب طيب صبور، يعيش محنة كما كان الأمر بالنسبة ل"بوكاسا"و"دوفاليي" كل هذا يبرهن على أنه ما كان يستحق أن ثمة مجتمعات في العالم العربي "تتوافر فيها كل الظروف المواتية للانفجار"