إسهامات العرب في مجالات التكنولوجيا والتعليم
اعداد: أ. مصطفى دعمس
مقدمة :
زاد اهتمام علماء العرب والمسلمين في المجالات العلمية منذ أن تأسست الدولة الإسلامية، وكان منبع اهتمامهم من توجيهات القرآن الكريم ، وكانت أوَّل كلمةٍ نزلَتْ في القرآن الكريم: ﴿ اقرأ ﴾، وهي تدلُّنا على الطَّريق السليم، والصِّراط المستقيم، والمُتمثِّل في مدى اهتمام الإسلام بالعِلم، وأهَمِّية البحث العلميِّ وقيمته بالنِّسبة للفرد والأُسرة والمُجتمع(شعبان، 1997، ص5). فالأمَّة التي يبدأ دستورها بكلمة «اقرأ» يجب أن تُوقِن لا محالة أنَّ التكنولوجيا والتعليم هو سبيلها، وهو المنهج الذي لا حيد عنه لتنهض وترقى، وهذا ما فعله كلُّ أسلافنا ممَّن أبهروا العالم بسرعة تطوُّرهم، وليس أدلَّ على هذا من شهاداتهم أنفسهم عن حضارتنا.
إن العودة إلى التراث القديم واستحضار منجزات الماضي التربوي العربي بقصد إحياء بعض مضامينه المشرقة، أمر واجب، شريطة أن يتم ذلك عبر التوظيف الممنهج لمبتكرات العلم المعاصر وتقنياته الجديدة، والرجوع إلى المصادر الأساسية للتراث دون أن يشوبها شوائب الدهر على أيدي المغيرين في تراث المسلمين.
فالتحديث التربوي الحقيقي لم ولن يتحقق إلا بتوافر شروطه اللازمة المتمثلة أساساً في نهج سياسة تربوية مضبوطة المنطلقات وواضحة الأهداف، يؤطرها مناخ الحرية والعقلانية والمبادرة الواقعية والكفاءة، وتحكمها اختيارات حاسمة المفعول، ويتفاعل فيها كل ما هو سياسي، واجتماعي، وثقافي (الغالي، 2001م: ص156).
وقدم علماء الحضارة الإسلامية مآثر ذات قيمة معرفية وتطبيقية في تاريخ الحضارة الإنسانية. وتشكل إنجازاتهم العلمية أساسا لكثير من المباحث التي تعامل اليوم كعلوم تخصصية مستقلة نظرا لاتساع دائرة البحث في موضوعاتها. تقول زيجريد هونكه: «إنَّ هذه القفزة السريعة المدهشة في سُلَّمِ الحضارة -التي قفزها أبناء الصحراء، والتي بدأت من اللاشيء- لهي جديرةٌ بالاعتبار في تاريخ الفكر الإنساني. وإنَّ انتصاراتهم العلميَّة المتلاحِقَة التي جعلتْ منهم سادةً للشعوب المتحضِّرَة لَفَريدةٌ من نوعها؛ لدرجةٍ تَجْعَلُهَا أعظم من أن تُقارَن بغيرها، وتدعونا أن نقف متأمِّلِينَ: كيف حدث هذا؟!»( لوبون: 2000م، ص273).
لم يكن تاريخنا يوماً يفتقر إلى العلم والعلماء، وعصور الظلام التي تحدثت عنها أوروبا كانت هي عصور النور والمعرفة على الحضارة الإسلامية، ففي الوقت الذي عانت فيه أوروبا من النزاعات الداخلية والصراعات كانت الحضارات العربية الإسلامية تبني المكتبات وتؤلف المؤلفات الطبيّة والعلميّة والهندسيّة التي سرقها الغرب لاحقاً أو أكلتها نيران الحقد والكره ضدهم. لم نكن مثل الغرب منصفين في حقِّ مفكرينا، بل سعينا إلى تمجيد غيرهم متناسين فضلهم على حياتنا اليوم، فالذي لا ندريه أنَّ علماءَنا هم من وضعوا أسس الهندسة وأسس الطب، ومنهم من فسّر كيف نرى، وكيف ممكن أن نطير ولولاهم لما عرفنا اليوم البوصلة.
أنَّ تاريخنا العربيّ والإسلاميّ يزخر بالعلماء والمفكرين الذين سبقوا علماء الغرب ، وحتى أن بعض علماء الغرب قد إستندوا في دراساتهم على أبحاث العلماء المسلمين. إن التراث العلمي للمسلمين يشمل جزءًا كبيرًا من التاريخ العلمي والحضاري للبشرية ويمثل دور هذه الأمة الرائد في مسيرة الحضارة الإنسانية، بشهادة المنصفين من المؤرخين، لكن بعض المنظرين يغفلون هذا الدور الإسلامي الرائد في الوقت الذي يحاولون فيه أن يؤرخوا لنظرية العلم بإيجاد أساس لها عند أفلاطون وأرسطو في الحضارة الإغريقية، أو عند بيكون وديكارت وغيرهم من رواد النهضة العلمية الحديثة.( تاتون ، 1988)
بلغت مكانة العلوم الحياتية والتطبيقية في ظلِّ الإسلام مبلغًا عظيمًا، حتى أصبح المسلمون فيها سادة، وقد ملكوا ناصيتها كما ملكوا ناصية العالم، فغدت جامعاتهم مفتوحة للطلبة الأوروبيين الذين نزحوا من بلادهم لطلب تلك العلوم، وطفق ملوك أوروبا وأمراؤها يفدون على بلاد المسلمين ليُعَالَجوا فيها، وهو ما دعا العلامة الفرنسي غوستاف لوبون أن يتمنَّى لو أن العرب المسلمين استولوا على فرنسا؛ لتغدو باريس مثل قرطبة في إسبانيا المسلمة! فقال تعبيرًا عن عظمة الحضارة العلمية في الإسلام: "إن أوروبا مدينة للعرب (المسلمين) بحضارتها"( لوبون: ص 317).
وقد كان ذلك لمَّا فَقِه المسلمون حقيقة دينهم، وعلموا كيف أنه يُشجِّع على العلم النافع بكُلِّ أشكاله، ويُعلي من شأن العلماء ومكانتهم، فطفقوا يجُوبون في تحصيله، شعارهم أنهم أحقُّ الناس به أنَّى وجدوه، وفي ذلك فإنهم لم يُفرِّقوا بين علوم شرع أو علوم حياة؛ فإذا كان بعلوم الشرع يُقام الدين، فإن علوم الحياة هي أيضًا تلك العلوم النافعة التي يحتاج إليها الإنسان ليُصْلِح بها حياته، ويعمِّر بها أرضه، ويستكشف بها كونه وبيئته، فتتحقَّق بذلك أهليَّته كخليفة لله في الأرض(السرجاني: 2007م، ص 17- 52).
يقول جوستاف لوبون (Gustav Lebon): «ولم يَكَدِ العرب يُتِمُّونَ فتح إسبانيا حتى بدءوا يقومون برسالة الحضارة فيها؛ فاستطاعوا في أقلَّ من قرنٍ أن يُحْيُوا مَيِّتَ الأرضين، ويُعَمِّرُوا خراب المدن، ويُقيموا فخم المباني، ويُوَطِّدُوا وثيق الصلات التجارية بالأمم الأخرى، ثم شرعوا يتفرَّغون لدراسة العلوم والآداب، ويُتَرْجِمون كتب اليونان واللاتين، ويُنْشِئُون الجامعات التي ظَلَّتْ وحدها ملجأً للثقافة في أوروبا زمنًا طويلًا»( هونكه، 1963، ص354).
ویهـدف هـذا البحـث إلـى تـسلیط الـضوء علـى الإسـهامات والابتكـارات الأصـیلة التي قـدمها العلمـاء مـن أسـلافنا في مجالات التكنولوجيا والتعليم، مـستخدمین في ذلـك العدیـد مـن المنـاهج منهـا: المـنهج المقـارن، والمنهج الرياضي، والمنهج الاسـتنباطي، التي أثَّرت تأثيراً كبيراً على الفكر الإنساني بعامة، وعلى الفكر الغربي بخاصة في فترة القرون الوسطى حتى القرن السابع عشر تقريباً، ومعرفة مدى أهمية الأفكار العلمية التي أسهم بها أسـلافنا في تقدم الحضارة الإنسانية وإبراز تراثنا العلمي وإشعار الباحثين بعظمة ما قدمه العلماء المسلمون في مجالي العلم والمعرفة، والاطلاع على أصالة العقلية الإسلامية وريادتها في المنهج العلمي، وتعميق الأصالة الفكرية والعلمية لدى شبابنا وتحفيزهم على النهوض من جديد واسترداد ما ضاع منهم.
وقـد نالـت الدراسـات العربية حظهـا الـوافر مـن الدراسـة، فلـدینا بحـوث ودراسـات قیمـة في إسـهامات علمـاء العـرب والمسلمين في المجالات العلمية ، أبرزت فضل العلماء العرب والمسلمین على الحضارة العالمية.
ومـن تلـك الإسـهامات علـى سـبیل المثـال لا الحـصر:
المنهج العلمي في الفكر الإسلامي:لقد أدى العرب دورهم في خدمة العلم وأقاموا أسس المنهج العلمي الحديث على دعائم لا يمكن انكارها، فقد وجد عند علمائهم في دراساتهم وبحوثهم وكشوفهم العلمية، حيث انطلق المسلمون وفي قلوبهم ذلك المشعل الهادي ليخرجوا من الظلمات الى النور، وأصبح للمسلمين منهجهم الواضح، وتصورهم الجلي للحياة، وفهمهم الرشيد لرسالتهم في هذه الدار، فالهدف مرسوم والغاية لا تحتاج الى كثرة تأويل ولا جدال، فالمنهج الاسلامي يستقي أصوله من شريعة الاسلام، وخصائصها، فهو يخاطب الانسان ويتلاءم مع فطرته السليمة " فطرة االله التي فطر الناس عليها" (سورة الروم آية ٣٠)
لذا فان أصول المنهج العلمي الاسلامي تعتمد على الوسط العدل فهو مفتاح السعادة للجسم والنفس، فهو ينظم حياة الانسان دينا ودنيا، روحاً ومادة، علماً وعملا. كما أن اليسر أصل من أصول هذا المنهج وغاية من غاياته الفريدة (الشرقاوي، 1983 ، ص 105-107)
ان علماء المسلمين هم بحق الذين وضعوا أصول المنهج العلمي الحديث فربطوا بين العلوم النظرية والعلوم العملية، وبين الحدس والتجربة وبين الاستنباط والاستقراء والدراسة المكثفة للسنن الكونية وماهيات الأشياء، فسبقوا فرنسيس بيكون الى انشائها، بل انهم زادوا على طريقة بيكون التي لا تتوافر فيها جميع العناصر اللازمة في البحوث العلمية . (طوقان: 1945، ص 9) وعلى رأس هؤلاء جميعا الحسن بن الهيثم وغيره كثيرون، وقد عبّر عن هذا المعنى نيكلسون حيث قال: " ... ان أعمال العرب العلمية اتصفت بالدقة وسعة الأفق، وقد استمد منها العلم الحديث – بكل ما تحمل هذه العبارة من معان – مقوماته بصورة أكثر فاعلية مما نفترض ... " (مظهر: 1974 ، ، ص 170 - 192)يعد التوصل إلى المنهج التجريبي في البحث القائم على القياس والاستقراء إضافة علمية إسلامية مميزة ساهمت في تطور المسيرة العلمية في العالم أجمع، حيث أدى تطبيق العلماء المسلمين للمنهج التجريبي إلى اكتشاف أخطاء كثيرة توارثها العلماء في القرون الماضية، فلم يكتف العلماء المسلمين بنقد النظريات السابقة، بل افترضوا افتراضات جديدة واختبروا مدى صحتها، ويعد ابن الهيثم من العلماء المسلمين الذين كان لهم دور كبير في هذا المجال ويقول:"... ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات وتصفُّح أحوال المبصرات وتميز خواص الجزئيات، ونلتقط بالاستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، وما هو مطَّرد لا يتغير، وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس، ثم نترقى في البحث والمقاييس على التدرج والترتيب، مع انتقاد المقدمات والتحفُّظ في النتائج ، ونصل بالتدرج إلى الغاية التي عندها يقع اليقين والتحفُّظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف " (ابن الهيثم، 1982)
من خلال النص السابق يرى ابن الهيثم أن الهدف من كل ذلك هو طلب الحق، وتحري الدقة والابتعاد عن الهوى والميل إلى آراء دون أخرى، وذلك من أجل الوصول التدريجي إلى الغاية التي عندها يقع اليقين والظفر بالحقيقة التي تزول معها الشبهات، وهذا يدل على اهتداء ابن الهيثم إلى طريقة في البحث العلمي يجمع فيها بين الاستقراء والقياس والاستنباط، مقدماً منهج الاستقراء على القياس، وهو في هذا يعبر عن المنهج العلمي بمعناه الحديث الذي يتألف من الاستقراء والاستنباط. (قنصوه ،1981م، ص.143)
لقد وصف فون ريمر مثلا النشاط العلمي عند المسلمين فقال : " إن أعظم نشاط فكري قام به العرب يبدو لنا جليا في المعرفة التجريبية ضمن دائرة ملاحظاتهم واختباراتهم . فإنهم كانوا يبدون نشاطاً واجتهاداً عجيبين حين يلاحظون ويمحصون ، وحين يجمعون ويرتبون ما تعلموه من التجربة. ولذلك فإن أسلوبهم في البحث أكبر ما يكون تأثيراً عندما يكون الأمر في نطاق الرواية والوصف" . (جعفر،1986،ص 19)
يقول "Briffault" مؤلف كتاب "بناة الإنسانية" "Making of Humanity": "إن روجر بيكون درَس اللغةَ العربية والعلمَ العربي في مدرسة أكسفورد على يد خلفاء معلمي العرب في الأندلس، وليس لروجر بيكون ولا لسميِّه الذي جاء بعده الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبِي، فلم يكن روجر بيكون إلا رسولاً من رسل العلم والمنهج الإسلامي التجريبِي إلى أوروبا المسيحية"( كمال: 1990).
سجلت الحضارة الإسلامية سبقا لا يمكن إنكاره في تأسيس المنهج العلمي، المتمثل في المنهج الاستقرائي القائم على التجريب، والمنهج الاستنباطي العقلي مع عدة علماء وفى عدة مجالات المعرفة. ونذكر على سبيل المثال وليس الحصر عالمين رائدين، ضلت أعمالهما نبراسا للغرب في العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث. أحدهما أسس منهجه في الكيمياء و هو جابر بن حيان (737-813م) والآخر في علم البصريات وهو الحسن بن الهيثم (965-1039م)
أولاً- جابر بن حيان: رائد المنهج العلمي التجريبي في الكيمياءيعد عالم الكيمياء جابر بن حيان من الرواد البارزين في علم الكيمياء ، الذين كان لهم دور في رفد مكتبة التراث العربي الإسلامي بالإنجازات العلمية التي أثرت الحضارة العربية الإسلامية . نشأ جابر بن حيان منذ الصغر نشأة علمية سببها انشغال والده بمهنة العطارة وتحضير الأدوية، فضلاً عن حبه للعلوم وميله للغرف منها ، أذ لم يعتمد على الآخذ من علم واحد شأنه شأن علماء عصره حيث برع في العديد من المجالات العلميّة أهما: الكيمياء، والهندسة، والفلك، الفلسفة (محمد ، 2006 ،ص 22).
وقد أختلف العرب في القابه العديدة منها ( الأستاذ الكبير ، شيخ الكيميائيين ، أبو الكيمياء ، القديس السامي ، الصوفي نسبة الى الفرقة الصوفية ، ملك الهند ، الأزدي نسبة الى قبيلة أزد في اليمن ، الكوفي نسبة الى مكان سكنه في الكوفة، الطوسي نسبة الى مكان سكنه في أقليم خراسان(أبن النديم،1994 ، ص435 )
وعلى يديه كان بَدْء ظهور المنهج العلمي التجريبي، والذي يعتمد على التجرِبة والملاحظة، اللَّتان اعْتُبِرَتا حجر الزاوية لدراسة العلوم الطبيعية، كما أنه يُعَدُّ شيخ علماء الكيمياء المسلمين، والذين كانت لهم إسهاماتهم البارزة في ذلك العلم. فترى جابر بن حيان يدعو إلى الاهتمام بالتجربة، ودقَّة الملاحظة، تلك التي يقوم عليها المنهج التجريبي، فيقول: "ومِلاكُ كمال هذه الصنعة العملُ والتجرِبة؛ فمَن لم يعمل ولم يُجَرِّب لم يظفر بشيء أبدًا"( ابن حيان: 1928).
وقد كانت الكيمياء قبل جابر خرافية تستند على الأساطير البالية، حيث سيطرت فكرة تحويل المعادن الرخيصة إلى معادن نفيسة؛ وذلك لأن العلماء في الحضارات ما قبل الحضارة الإسلامية كانوا يعتقدون أن المعادن المنطرقة مثل: الذهب، والفضة، والنُّحاس، والحديد، والرصاص، والقصدير من نوعٍ واحد، وأن تباينها نابع من الحرارة والبرودة، والجفاف والرطوبة الكامنة فيها (الدفاع: 1991، ص 274).
وقد تأثَّر بعض العلماء العرب والمسلمين الأوائل، كجابر بن حيان وأبي بكر الرازي، بنظرية العناصر الأربعة التي ورثها علماء العرب والمسلمين من اليونان، لكنهما قاما بدراسة علمية دقيقة لها؛ أدَّت هذه الدراسة إلى وضعِ وتطبيق المنهج العلمي التجريبي في حقل العلوم التجريبية.وعليه يكون جابر قد قطع خطوة أبعد مما قطع اليونان في وضع التجرِبة أساس العمل، ولذلك يُعَدُّ أوَّل من أدخل التجرِبة العلمية المخبرية في منهج البحث العلمي الذي أرسى قواعده؛ يقول هولميارد Holmyard، وهو الذي اهتم بأعمال جابر ومؤلَّفاته ومنهجه العلمي، حتى عكف على إبراز القيمة العلمية لعمله: "إن الصنعة الخاصَّة عند جابر هي أنه على الرغم من توجُّهِهِ نحو التصوُّف والوهم، فقد عَرَف وأكَّد على أهمية التجريب بشكل أوضح من كل مَن سبقه من الكيميائيين"( فروح: 2002، ت ص251).وقد سُمِّيَ علم الكيمياء باسم جابر بن حيان؛ فقيل: "صنعة جابر"، ومن أبرز إسهامات جابر فيه أنه يُعَدُّ أوَّل من استخرج حامض الكبريتيك، وسمَّاه زيت الزاج، وأول من اكتشف الصود الكاوي، وأوَّل مَن استحضر ماء الذهب، ودرس خصائص مركبات الزئبق واستحضرها، وقد بلغت تصانيفه 232 كتابًا(أبو خليل ، 1994، ص 521).يقول غوستاف لوبون: "تتألَّف من كتب جابر موسوعة علمية تحتوي على خلاصة ما وصل إليه علم الكيمياء عند العرب في عصره، وتشتمل هذه الكتب على وصف كثير من المركَّبات الكيميائية التي لم تُذْكَر قبله، كماء الفضة (الحامض النتري) الذي لا نتصور علم الكيمياء بغيره"( لوبون ، 1984، ص 475).ولقد تُرجمت كتب جابر إلى اللاتينية، وظلَّت المرجع الأوفى للكيمياء زُهاء ألف عام، وكانت مؤلَّفاته موضع دراسة مشاهير علماء الغرب، أمثال: كوب، وبرثولية، وكراوس، وهولميارد الذي أنصفه ووضعه في القمَّة، وبدَّد الشكوك التي أثارها حوله العلماء المغرضون. وسارتون الذي أرَّخ به هذه الحِقبة من الزمن في تاريخ الحضارة الإسلامية، فيقول عنه مندهشًا: "ما قدر جابر أن الكتب التي ألَّفها لا يمكن أن تكون من وضع رجل عاش في القرن الثاني للهجرة؛ لكثرتها ووفرة ما بها من معلومات"( منتصر،2012، ص 106).وفي عصر جابر زاد الاهتمام بحركة الترجمة بصورة ملحوظة، ويَرْجِع السبب الرئيسي في ذلك إلى تشجيع الخلفاء -وهم العباسيُّون- ورعايتِهم للعلماء والمترجِمِين، وإجزالِ العطاء لهم، بصرف النظر عن مِلَلِهم وعقائدهم، لتَخْرُج تلك الحركة من حيِّز المحاولات الفردية إلى أن تكون لها سياسة منهجية متَّبَعَة، تُشرف عليها الدولة نفسها، وهو ما أدَّى إلى أن يتَّسع نطاق العلوم المترجَمة، ليشمل الفلسفة والمنطق والكتب الأدبية، بجانب الطب وسائر العلوم التجريبية كلها(عفيفي: 1976، ص 36- 43).منهج البحث عند جابر بن حيان1- التجربة: توصل جابر بن حيان في القرن الثامن وأوائل القرن التاسع الميلادي إلى مبادئ منهج البحث العلمي الحديث، فإن من يتصفح مؤلفاته العلمية يجد هذا المنهج منثورا ومبثوثا في كل كتاباته، ويمكن لعين الباحث الفاحصة أن تتبين شتات هذا المنهج منثورة هنا وهناك، حيث تجد منهجا تجريبيا يصطنعه في بحوثه الكيميائية جدير بالفحص والتحليل فهو يلزم نفسه بأسلوب من البحث النظري والسلوك العملي، يضم تحته كلا المنهجين الاستدلالي والاستقرائي، والذي هو في النهاية الأسلوب العلمي بالمعنى الحديث. وعن أهمية التجربة يقول: (من كان دؤوبـاً كان عالِماً حقاً، ومن لم يكن دؤوباً لم يكن عالماً، وحسبُك بالدّربة في جميع الصنائع، إنّ الصانع الدّرب يحذَق، وغير الدّرب يُعطِّل)
2- منهج البحث العلمي: كان لجابر بن حيان منهج اعتمد على الاستنباط والاستقراء معا، اعتمادا واعيا صريحا، فاقرأ- مثلا - هذه الجملة ليصف بها منهجه ذاك: " ... قد عملته بيدي وبعقلي من قبل، وبحثت عنه حتى صح، وامتحنته فما كذب ". فها هنا قد أجمل جابر كل ما نريده نحن من الباحث العلمي في كلمات قلائل رتبت أدق ما يكون الترتيب، فعمل باليد، ثانيا حتى تنتهي منه إلى نظرية مفروضة، ثم امتحان تطبيقي، ثالثا، للغرض العقلي الذي فرضناه. وهو يفيض في شرح هذا المنهج إفاضة كافية في مواضع كثيرة من كتبه.
الاستنباط والاستقراء
يُذكَر أنّ كتابَي ابن حيان نهاية الإتقان ورسالة الأقران قد تُرجِما إلى اللاتينيّة في القرن الثالث عشر الميلادي، وكانَ لهما أثر بارز في رسم المنهج التجريبيّ الأوروبيّ، الذي أنار الطريق فيما بعد لعلماء أوروبيّين كبار، أمثال: روجر بيكون، وفرانسيس بيكون، وروبرت الشستري، ونيوتن، وبريستلي، وألتون، وجاليليو، ولافوزاييه، وغيرهم. ( محمد ،2006، ص: 3-8)من أقوال جابر بن حيّان ممّا وردَ في أثر جابر بن حيّان ووضّح فلسفته في تجاربه أنّه قال:( محمد ،2006، ص: 17-22)
(إنّ كلّ نظريّةٍ تحتمل التصديق والتكذيب؛ لا يصحّ الأخذ بها إلا مع الدليل القاطع)
قال ابن حيّان في كتابه الخواص الكبير: (إنّنا نذكر في هذا الكتاب خواصّ ما رأيناه فقط، دون ما سمعناه أو قرأناه، بعدما امتحنّاه وجرّبناه، فما صحّ أوردناه، وما بطل رفضناه، وما استخرجناه نحن أيضاً قايَسْناه على أحوال هؤلاء القوم). ومن أقواله أيضاً: (إنّ من لم يسبق إلى العلم لم يمكنه إتيان العمل؛ وذلك لأنّ العِلَل إنّما تُبرز الصورة في المادة على قدر ما تقدّم من العلم).
عاش جابر حياةً مليئةً بالعلم والتجارب، وبعد نجاح الثورة العباسيّة استقرّ في بغداد، إلا أنّه تُوفّي في طوس التي وُلِد فيها عام 813 م، بعد أن سطّر في صفحات التاريخ سطوراً مضيئة بالعلم والإنجاز.( عبد الوهاب ،2008، ص: 17-1)
ثانياً: المنهج التجريبي عند ابن الهيثم يعد ابن الهيثم من علماء الحضارة العربية الإسلامية البارزين والمتميزين، الذين قدموا الكثير للفكر الإنساني في مجالي العلم والمعرفة، وكان له أثر كبير على تقدم الفكر الغربي فيما بعد، فهو رائد المنهج العلمي التجريبي بامتياز، وأحد العلامات المضيئة في سماء الحياة الفكرية والعلمية، فهو يحظى بقدر كبير من الاهتمام من قبل الباحثين العرب والغربيين على حد سواء، ولعل اهتمام الباحثين الغربيين كان أكثر من اهتمام العرب أنفسهم.
قدم ابن الهيثم نسقاً علمياً محكماً عبّر فيه عن ثورة العقل وانتصاره، وبذل جهداً كبيراً من أجل توصيل أفكاره التي لاقت رواجاً وإعجاباً عند العرب والغرب على حد سواء، ويكفي هذا العالم فخراً أن عبّرت أفكاره عن تقدم الفكر العربي الإسلامي وعظمته، كانت أفكاره تنم عن عقل ناضج وأراء صادرة عن منهج علمي دقيق قائم على التفكير العقلي والبحث العلمي المتميز.
ولد ابن الهيثم في البصرة بالعراق سنة (354هـ /965م)، ويُعرف في الغرب باسم "الهازن"، لقبوه ببطليموس الثاني، وكان مولده في فترة مثَّلت العصر الذهبي للإسلام. نشأ في البصرة وتلقَّى علومه بها، وأطلع على العديد من الكتب التي تتعلَّق بالعقيدة الإسلامية وبعض الكتب العلمية، فترجمت كتب كثيرة ومتنوعة منها في الرياضيات والهندسة والطب، من اللغات اليونانية واللاتينية، بدأت فترة الإبداع والأفكار، وقد اهتم بالاطلاع على كتب العلماء اليونان ومؤلفات من سبقه من العلماء المسلمين الكبار أمثال الكندي والفارابي وابن سينافي الفلسفة، والرازي في الطب، والخوارزمي في الرياضيات، وجابر بن حيان في الكيمياء(الدفاع، 1991م، ص185).
كما درس الهندسة والبصريات والطب، وتخصّص في طب العيون ببغداد، وعلى الرغم من ازدهار العلوم ووجود عدد من العلماء، إلا أنّ أهل المدينة كانوا يقصدونه للسؤال عن العديد من العلوم، وأصبح الطلاب يفدون إليه من كل حدب وصوب، فكان يغرس فيهم تقدير العلم ويستنكر الأجرة والرشوة والهدية، ويرى أنّ العلم يزيد بالإنفاق، وهو دائم البحث لا يستريح إلا لنظرية يثبتها، أو لقانون يصل إليه. كما تفرّغ لكتابة مذكرات في موضوعات الكتب التي درسها، ووضع ملخَّصات لها؛ ليتمكَّن من إدراك معانيها لتصبح مراجع تفيد طلاب العلم، وهو يقوم بذلك من أجل إفادة من يطلب العلم ويؤثره، وإثبات ما يتصوره ويتقنه من العلوم حتى يستطيع الرجوع إلى هذه العلوم إذا خانته الذاكرة عند الشيخوخة (نظيف، 2008م، ص 101- 102).
وبدأ في نسخ الكتب والترجمة والتأليف كمورد لرزقه، و ألَّف كتابه(المناظر)، و عشرات الكتب الأخرى في علوم الرياضيات والفلك والفيزياء وغيرها، ثم سافر إلى الأندلس في رحلة علمية، وقد وصل ما كتبه إلى حوالي237 مخطوطة ورسالة في شتَّى فروع العلم.على ذلك فقد عبّر ابن الهيثم عن ثقافة العصر الذي عاش فيه، وذلك باستخدامه العديد من المصطلحات في منهجه، كالقياس وبرهان الخلف وغيرها، فهذه المعاني كانت وليدة عصره، وفي نفس الوقت عبّرت عن مدى موافقته لفلاسفة عصره في بعض الموضوعات الفكرية والعلمية التي كانت سائدة في تلك الفترة، حيث مزج بين منهجه والأفكار السائدة التي تعبّر عن ثقافة عصره في الكثير من المجالات، وقد اتفق مع ابن سينا في رأيه المتعلق بأنّ الجسم إذا تغيّر شكله تغير سطح المحيط، وزادت مع ذلك مساحة السطح المحيط به في حين لم تتغيّر مساحة الجسم (عبد الرحيم، 2005، ص83).
أقام ابن الهيثم بحوثه على الاستقراء والقياس، واهتم في بعض منها بالتمثيل، وهي العناصر التي تقوم عليها البحوث العلمية المعاصرة، لذلك فابن الهيثم من مؤسسي المنهج التجريبي، وقد كان له السبق على بيكون في الأخذ بالطريقة الاستقرائية، فكان أوسع منه أفقاً وأعمق تفكيراً وأكثر تحليلاً وأوضح فكراً، فأدرك صحة النظرية العلمية ووظيفتها إدراكاً صحيحاً، وهو ما توصل إليه فيما بعد فلاسفة العلم المحدثين في القرن العشرين. ( طوقان، 1960)
وعلى ذلك فابن الهيثم عمل على أنّ يكون البحث العلمي مرتكزاً على قاعدة أساسية متينة، وهي طلب الحقيقة بدون ميل لرأي أو تأثر بعاطفة معيّنة، حيث وضّح أنّ الحقيقة دائمة التغير، وبالتالي فهو يسعى للوصول إليها دائماً. أكّد ابن الهيثم على عدم خلو الطبيعة البشريّة من العيوب حين قال: "ونحن لسنا براءٌ مما هو في في طبيعة الإنسان من كدر البشرية..."، ويمكن أن نتبين من كلماته مدى موضوعيته وتواضعه، كما أكّد ابن الهيثم على أن الأخلاق العالية من أهم سمات أسلوب الباحث العلمي من خلال مؤلفاته التي تخلو من سرقة أيّة حقوقٍ لأي عالمٍ أو باحثٍ آخر، كما لا يمكن أن تجد في مؤلفاته وأبحاثه أي نوعٍ من التجريح أو التقليل من العلماء الآخرين؛ فهو لطالما كان مخلصًا لهم و وللعلم الذي حصل عليه منهم.( القدومي،2000،ص 9-10)خطوات المنهج التجريبي:
بدأ ابن الهيثم منهجه العلمي بثلاث خطوات، وهي الملاحظة، والفرض، والتجربة ،
سنوضّح فيما يلي كل خطوة من هذه الخطوات. أ- الملاحظة: تعد القاعدة الأساسية التي يقوم عليها المنهج التجريبي عند ابن الهيثم، فالملاحظة هي أساس التمييز بين الأشياء والحقائق وتحديدها، ويعتقد ابن الهيثم أنّ الملاحظة تعني توجيه العقل والحواس إلى ظاهرة، أو عدد من الظواهر الحسية رغبة في الكشف عن صفاتها للوصول إلى اكتساب معرفة جديدة، لذلك فقد ركَّز على المعرفة العلمية لتحقيق هذا الهدف، ذلك لأنّ الملاحظة العلمية يقوم بها الباحث من أجل الكشف عن تفاصيل الظاهرة والعلاقات التي تربط بين عناصرها، وتتميّز الملاحظة العلمية بالآتي:
1 ـ الدقة في تسجيل الظاهرة وسلامة حواس الباحث. 2 ـ توفر الآلات اللازمة لتسجيل الأشياء التي يصعب على الحواس تسجيلها. 3 ـ الموضوعية في تسجيل المعلومة المتعلِّقة بالظاهرة. 4 ـ أن تكون الملاحظة بواسطة الحواس. 5 ـ أن تنتهي الملاحظة إلى فرض علمي. 6 ـ أن تقدم لنا تفسيراً علمياً وتعليلاً لما يُلاحظ (زيدان، 1980م، ص47).ب ـ الفرض العلمي: أدرك ابن الهيثم الدور الذي يلعبه الفرض العلمي وعدّه أحد العناصر المهمة للمنهج التجريبي الذي يتمثَّل في تفسير الظواهر الطبيعية والوصول من خلاله إلى القانون العلمي، إذن فالفرض العلمي عند ابن الهيثم هو روح الملاحظة، وهو عنصر الكشف، والتحقُّق من الفرض لا يتم إلا من خلال الملاحظة والاستدلال. وعلى ذلك فابن الهيثم يرى أنّ الفروض العلمية ينبغي أن تتميّز بالميزات الآتية:
1ـ أن تكون مستوحاة من الواقع، وذلك من خلال التجربة والملاحظة. 2ـ ألا تتعارض مع الحقائق التي قرّرها العلم بطريقة لا تقبل الشك. 3ـ أن يكون الفرض العلمي قابلاً للتحقق. 4ـ أن يكون الفرض العلمي كافياً لتفسير الظاهرة. 5ـ الابتعاد عن الفروض غير الصالحة. 6ـ اختيار الفرض الذي يمكن تفسيره . 7ـ عدم التسرّع في وضع الفرض (عبد الرحيم، 2005م، ص194).ج ـ التجربة: من أهم المراحل التي تسهم في تحقيق الفرض، فالفرض يؤدي إلى إجراء التجربة، ومن ثم وضع الملاحظات للتأكد من صدقه، ويعبر ابن الهيثم عن التجربة بلفظة(الاعتبار)، وعن العالم بلفظة(الباحث)، ولذلك فالاعتبار في اللغة يعني الفهم والاستدلال بشيء على شيء، ومن هذا الجانب يقترب ابن الهيثم من معاني المنهج الذي يرى أنّ المنهج العلمي هو جهد إيجابي للفهم وتصحيحه إلى ما لا نهاية (قنصوه،1981م، ص52) .
ويعتقد ابن الهيثم أنّ لفظ الاعتبار(التجربة) يرتبط بالعمل، فالعمل هو التجربة، والتجربة تهدف إلى الوصول لنتيجة معيّنة، فالتجربة ليست إلا ملاحظة يتدخَّل خلالها الباحث في مجرى الظاهرة ليغير من ظروفها، أو تركيبها لتبدو في وضع يصلح لدراستها (الطويل، 1978م، ص126).
ويؤكد ابن الهيثم على أهمية التجربة المختبرية للوصول إلى نتائج علمية، ولذلك فلكل باحث طريقته الخاصة في التوصّل إلى نتائجه العلمية، وكذلك له أجهزته، فكل تجربة لها الأجهزة التي تناسبها، ويفضّل أن تكون الأجهزة متطورة لأنَّه كلما كانت الأجهزة حديثة ومتطورة كانت النتائج أكثر دقة، ولذلك فابن الهيثم يركز بشكل دقيق على عنصري الاختبار والاختيار في الوصول إلى نتائج علمية دقيقة، وهذا ما أكَّده الكثير من المهتمين بالنتائج العلمية الحديثة عندما رأوا ضرورة تحديد الظاهرة المراد دراستها والأجهزة المستخدمة والإطار النظري الذي يمتلكه الباحث (خليل ،1974م،ص151).
وبناءً على ما تقدم يمكن القول َّإنّ المنهج التجريبي في البحث الذي يقوم على القياس والاستقراء، ويستند إلى المشاهدة والتجربة يعد إضافة إسلامية متميزة للمسيرة العلمية، وهو منهج يستخدم الأسلوب العلمي التجريبي الذي ما زال يسير على نسقه العلم المعاصر، ولعب دوراً كبيراً في تقدّم الحضارة الإنسانية بشكل عام، فابن الهيثم أخذ بهذا العلم ووضع حجر الأساس للمنهج التجريبي، وسبق بيكون وطريقته الاستقرائية، فكان أكثر علماً وإلماماً وأوسع أفقاً وأكثر إدراكاً وتجربة وأعمق تفكيراً.
وعلى ذلك فأنَّنا في أمس الحاجة اليوم إلى زيادة الاهتمام بالأفكار العلمية التي أنتجها العلماء المسلمين وسادت العالم، وإلى النظرة المنفتحة التي تقوم على العقل وتجعله معياراً لحياتنا الفكرية والاجتماعية، والانفتاح على كل الثقافات الأخرى، حتى نستطيع وضع أقدامنا من جديد على أول درجة في سلم التقدّم، والتمسك بالتراث العلمي الذي ينقلنا إلى عصر جديد أكثر تقدّماً. الفكر التربوي عند ابن رشد:
كان ابن رشد فيلسوفا مسلما وفقيها مالكيا مجتهدا. لم يخرج عن الإطار العام للفلسفة الإسلامية على مستوى إشكالياتها أو موضوعاتها، أو من حيث المفاهيم التي وظفها في التحليل والتناول. (الجابري، ،1996،ص2). وانتقد كثيرا الفكر الفلسفي الذي لا يعبر عن احترام قواعد الإسلام وثوابته وقيمه الراسخة. كما دعا في الوقت نفسه الفقهاء للاقتراب من الفلسفة، لأن ضررها العارض، الناتج عن أخطاء الخطابات الفلسفية السائدة، لا ينفي نفعها بالأصل(أبو شوار، 1996، ص155 ).
اعتبره فلاسفة أوروبا في العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث الممثل الأكبر للفلسفة الإسلامية واشتدت الحملة عليه وعلى آرائه وكتبه (بدوي، 1984). ولرصد غاية التربية رجع ابن رشد إلى الإرث الفلسفي اليوناني، ويتخذ مرجعيته من آثار أفلاطون( شحلان، 1989، ص233 ). هو الذي شرح كتب أرسطو شرحاً جديراً بهذا الاسم، وكأن السابقين عليه سواء أكانوا من اليونانيين أم العرب لم يقدموا ما ينبغي أن يكون عليه الشرح الصحيح لكتب أرسطو، فشروحهم كانت إما قاصرة عن إظهار مقصود المعلم الأول، وإما منطوية على أخطاء في فهم النصوص الأرسطية، وهنا جاء ابن رشد ليكون هو " الشارح" أو " الشارح الأكبر" (منسية، 1999م: ص25).
وهكذا اتفق ابن رشد في تعريفه للعقل مع فلاسفة اليونان الذين اعتبروه ملكة خاصة بإدراك المجردات وبمعرفة الكلي في مقابل المحسوس الجزئي. يقول ابن رشد في تعريف العقل: "هو إدراك نظام الأشياء الموجودة وترتيبها. فالصور المادية إذا تجردت في النفس من مادتها، صارت علما وعقلا، ولما كانت معقولات الأشياء هي حقائق الأشياء، كان العقل هو إدراك المعقولات، أي إدراك نظام الأشياء الموجودة وترتيبها وأسبابها"( ابن رشد، 1993، ص193). فالعقل بهذا التعريف هو منهج في النظر، وطريقة في تحصيل المعرفة تسعى لإدراك أنظمة الموجودات وترتيبها وأسبابها. وهذا النظر العقلي يرى ابن رشد أنه واجب في الإسلام. قال في كتابه فصل المقال: "إن الشرع قد أوجب النظر العقلي في الموجودات واعتبارها"( ابن رشد،،1968، ص 68).
فالواقع هو مصدر المعرفة والمؤثر فيها بمتغيراته. كما أن الواقع نفسه يعكس التغيرات والتطورات التي تطرأ على العلم والمعرفة: "فكل علم معرفة، جزئية كانت أو كلية، لا يمكن إلا أن تكون مرتبطة بالواقع ونابعة منه" (إسماعيل، 1978، ص226).
يرى ابن رشد أن الأشياء الطبيعية متصل بعضها ببعض اتصالا ضروريا بأسباب محسومة مشاهدة، وأن الأسباب فاعلة والمسببات منفعلة. والدليل على ذلك أن لكل موجود فعلا يخصه لأن له طبيعة تخصه، ومعرفتنا بهذه الطبيعة وهذا الفعل هي التي تسمح لنا أن نطلق على كل شيء اسما واحدا يخصه(العشري، 1399هـ، ص60).
ولم يجد ابن رشد حرجا في تقرير علاقة السببية على الاعتقاد والإيمان الديني العميق بوجود الخالق الفاعل في هذا الكون لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الكون وخلق القوانين والسنن التي لا سبيل إلى خرقها وتبديلها، فعلى حين تحرج الغزالي في تقرير علاقة السببية لم يتحرج فيلسوفنا في تقرير العلاقة السببية باعتبارها من سنن الكون وقوانينه (عمارة، 1980، ص50).
لقد كانت مساهمات الحضارة العربية الإسلامية في تطور العلم الحديث، أقصد مساهماتها في إغناء مـخـزون المـعـرفـة، سـواء مـنـهـا المنطقية أو الرياضية أو المنهجية مساهمات مهمة، وانتقال المعرفة العلمية والفلسفية التي تراكمـت واخـتزنت في الحضـارة لعربية الإسلامية إلى الغرب كان له أثر عظيم في مسار التطور الفكـري الغربي. وهذا يعني أن العلم الحديث هو نتاج صلات ما بين حضارات تضم الذي جرى بين العرب والمسلمين والمسيحيين ولا تـنـحـصـر فـيـهـم. شملت اليونانيين والعرب والأوروبيين. فالمسألة الأهم هي أن العلم الحديـث هـو حـصـيـلـة لـصـلات متعددة مستمرة بين الحضارات دامت على مدى قرون. (Crombie,1988, 1-12)
المراجعابن رشد،(1993) تهافت التهافت. تقديم محمد العريبي، بيروت، دار الفكر اللبناني،.
ابن رشد.(1968): فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، تقديم ألبير نصري نادر، بيروت، دار المشرق،ط2.
ابن الهيثم، 1982م ، علم المناظر،ج1 ،تحقيق عبد الحميد صبره، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.أبن النديم : 1994، الفهرست ، تعليق الشيخ أبراهيم رمضان ، بيروت ، ط1 .أبو شوار، إبراهيم.( 1996)، (الأسس التربوية لعلاقة الحكمة بالشريعة في فلسفة ابن رشد)، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، عدد 55، ربيع .إسماعيل، علي سعيد.( 1978): أصول التربية الإسلامية، القاهرة، دار الثقافة.بدوي، عبد الرحمن،(1984) : موسوعة الفلسفة، ج1، مادة ابن رشد، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
الجابري، محمد عابد،(1996): (لنتخلص من الأسئلة المزيفة)، جريدة الاتحاد الاشتراكي، يوم 12/7/96.
شحلان، أحمد،(1989): (أبو الوليد بن رشد، الفيلسوف المصلح)، أشغال ندوة مراكش من التأسيس إلى آخر العصر الموحدي، كلية الآداب، جامعة القاضي عياض، مراكش.
العشري، جلال.( 1399 هـ)، (العقاد بين الغزالي وابن رشد)، مجلة الفيصل، عدد 22، ربيع الآخر.
عمارة، محمد.( 1980):(مقام العقل في مدرسة التجديد الديني الحديث)، مجلة الهلال، يناير .
الغالي، أخراشوا، (2001م)، الفكر التربوي العربي المعاصر بين إكراهـات الواقـع ومطـامع المستقبل، مجلة العلوم التربوية والنفسية، مجلد3 ،عدد 2 .
منسية، مقداد عرفة.(1999): ابن رشد: فيلسوف الشرق و الغرب: فى الذكرى المئوية الثامنة لوفاته، المجلد 2،جامعة الدول العربية، المنظمة العربية للتربية والثقافة العلوم.
كمال، يوسف: 1990م."الإسلام والمذاهب الاقتصادية المعاصرة"، دار الوفاء للطبع والنشر.
الفندي، محمد جمال الدين ، "دراسات في الحضارة الإسلامية" بمناسبة القرن الخامس عشر الهجري، تراث المسلمين في مجال العلوم.
زيغريد هونكه،1963، شمس العرب تسطع على الغرب، دار صادر – بيروت.
جوستاف لوبون: حضارة العرب، ترجمة: عادل زعيتر، الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة، 2000م.
خليل، ياسين ، 1974م ، منطق البحث العلمي، ج2 ،مطبعة دار الكتب، بيروت.الطويل، توفيق،1978م، أسس الفلسفة، دار النهضة العربية، القاهرة.
قنصوه، صلاح، 1981م ، فلسفة العلم، دار الثقافة، القاهرة.
عبد الرحيم، دولت ،2005م، الاتجاه العلمي والفلسفي عند ابن الهيثم، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة.زيدان، محمود، 1980م، الاستقراء والمنهج العلمي، مؤسسة الشباب بالجامعة، القاهرة، ط4 .طوقان، قدري ، 1960م ، مقام العقل عند العرب، دار المعارف، القاهرة.طوقان، قدري حافظ،1945، الخالدون العرب، نشر: دار العلم للملايين- بيروت .نظيف، مصطفى، 2008م، الحسن ابن الهيثم، بحوثه وكشوفه البصرية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.الدفاع، علي، 1991م، روائع الحضارة العربية والإسلامية في العلوم، دار عالم الكتب للنشر، الرياض.محمد، عاطف ،2006، أعظم علماء الكيمياء ( جابر بن حيان ) ، ط1 ، القاهرة: دار اللطائف.عبد الوهاب، أكرم (2008)، 100 عالم غيّروا وجه العالم (الطبعة الأولى)، القاهرة: دار الطلائع.الشرقاوي، حسن،1983 : المسلمون علماء وحكماء، دار المعرفة الجامعية – الاسكندرية.جلال مظهر: 1974 ، حضارة الاسلام وأثرها في الترقي العالمي، مكتبة الخانجي – القاهرة.القدومي، مروان، 2000، دور ابن الهيثم في البحث العلمي، مجلة جامعة النجاح للأبحاث، (العلوم الإنسانية)، المجلد (16) 1. A. C. Crombie “Designed in the Mind: Western Visions of Science, Nature, and Humankind”, History of Science 26 (1988): 1-12