إن العالم اليوم يشهد سباقاً محموماً في ميدان العلم والإبداع وأصبح وزن الدولة بل الأمة وتأثيرها مرهون بما تقدمه للإنسانية من علوم وإبداعات ، وخطي العالم اليوم قفزات واسعة في ميدان التقدم والإبداع لم تكن متصورة قبل سنوات قليلة ، وأن العماد الأساسي لهذه النهضة هم المبدعون ، ولعل الاهتمام بهم من قبل هذه الدول التي تقود قافلة الحضارة الإنسانية هو من أهم أسباب تقدم هذه الدول وتأثيرها في كل الميادين ، وفي المقابل لا يخفى على متأمل أن تأخر أمتنا إلى ذيل القافلة قد يعود بشكل كبير إلي إهمال القدرات الإبداعية ، والتفكير الإبداعي ، وذلك على صعيد التربية والإعداد أولاً ، وعلى صعيد التطوير والانتفاع ثانياً ، فنحن لا نكاد نلمس اهتماماً يفي بالمطلوب بفئة المبدعين من الناس
كما إن الأمم المتقدمة تبحث اليوم عن المبدعين في كل مجال من مجالات المعرفة ، بل تعمل على أن توجههم وتسهل سبل العمل والإبداع وتعطيهم من اهتمامها وتشجيعها ما يسمح لهم بالانطلاق في آفاق الاختراع والاكتشاف والتقدم ، لذلك بجب على الدول العربية بذل قصارى جهدها واهتمامها للعناية بهذا الجانب والعمل على تنميته لدى الطلبة .
كما يرى بعض العلماء أن التغير والتطور الذي حدث في المجتمعات البشرية يشير بوضوح إلى مدى الحاجة إلى تنمية القدرات الإبداعية للأفراد بطرق وأساليب حديثة ، لان معظم أهداف الشعوب لا يمكن انجازها إلا بالاعتماد على القدرات العقلية وخاصة القدرات الإبداعية .
فالإبداع احد مقومات التقدم الحضاري ، وجسر تقدم الإنسان وعدًّته في مواجهة مشكلات الحياة وتحديات المستقبل ، ويرجع الفضل إلى التربية في إبراز الإنتاج الإبداعي ؛ لان الدول المتقدمة كلما اعتراها القصور في مجال ما عادت مسرعة تتصفح دفتري التربية والتعليم وواقعهما من معطيات العصر ومجريات الأمور ، مستوضحة الخلل الذي أصاب التربية فجعلها عاجزة عن بلوغ المرام ، أو المضي قدماً نحو المستقبل بما يتطلبه من الجديد ، وصولاً إلى أفاق إبداعية متنامية خارج أسوار الزمان ؛ لان الإبداع في مفهومه التربوي صنعي لا طبيعي بمعنى أن المؤسسة التعليمية هي المنوطة بصياغة العقول المبدعة في شتى المجالات ، والاهتمام بالإبداع في مجال ما ينعكس على مجالات أخرى ، لارتباط المعرفة في جميع مظاهرها ، ومن هنا يقتضي أن نعير اهتمامنا للإبداع في مؤسساتنا التعليمية
وفي مناخ كهذا ، تدعو الحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى تنمية القدرات الإبداعية ، لان الأفراد لا يستطيعون كما لا تستطيع المجتمعات المحلية والوطنية التكيف مع الجديد وتغيير الواقع إلا من خلال الإبداع والمبادرات الخلاقة التي تؤدي إلى حل كثير من المشكلات في كافة المجالات التي يمكن تخيلها .
[rtl]ولمّا كانت المجتمعات والدول تهتم بالإبداع ولمّا كانت الأمم والشعوب تفتخر بمبدعيها ، لذا أصبح لزاماً علينا الخوض في الدراسات الإبداعية في جميع مجالات المعرفة والحياة للخروج مما نعانيه من مشكلات الحياة التربوية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية الخ .. ، وإيجاد نمط حياتي متميز يأخذ بنا إلى حياة أفضل ، فالإبداع نمط حياة وطريقة لإدراك العالم من منظور إنساني راقي ومتطور ، وذلك لا يتم إلا من خلال الميدان التربوي .[/rtl]
إذ يرى جاكسون Jackson لكي نعيش في القرن الحادي والعشرين ، يجب على الطلبة أن يتسلحوا بمهارات التفكير اللازمة للتوافق مع متغيرات الحياة ، وأن يتعلموا كيف يكونون قادرين على حل المشكلات التي تواجههم بطريقة إبداعية .
فالقرن الحادي والعشرين بحاجة إلى نوع جديد من الإبداع ، وتمكين المعلمين والمتعلمين من الإبداع والقيادة ، وتحقيق التوازن بين المناهج التعليمية ، وضمان أن تكون المناهج الدراسية والتقييم ملبية للاحتياجات الفردية للمتعلمين لكي نستفيد من القدرات الإبداعية للمتعلمين والمعلمين.
وعلى الرغم من الاتجاهات الحديثة لامتلاك القوة المعلوماتية والتكنولوجية ، إلا أن التربية العربية لازالت تعاني من معظم - إن لم يكن جميع - مظاهر الضعف والخلل ، وأن التعليم لا يصلح للمستقبل ، لأن أهدافه غامضة وقائمة على خبرات غير متجددة ، أما طرائقه فتعتمد على التلقين والاسترجاع ، وقلما تستثير العقل وتستنفر الإبداع.
إن واقع التربية في عالمنا العربي واقع يفتقر إلى إمكانية تنظيم جهوده وبلورتها في اتجاه إعداد الإنسان المبدع ، وهو بأساليبه التقليدية يقتل في الأفراد فعل العقل ويميت فيهم روح الإبداع ، وينزع منهم جذوة الجسارة على اقتحام المجهول.
فالتعليم في كثير من الجامعات والمدارس لا يزال محصوراً في حفظ المقررات ، وتدوين الملاحظات ، وأداء الواجبات ، وتحصيل الدرجات التي تتطلب الحفظ الصم والاستيعاب في اغلب الأحوال، بعيداً عن تعليم التفكير والإبداع ، إذ لا تزال الطرائق التقليدية تسيطر على العملية التعليمية مما جعل مخرجاتها التعليمية قاصرة عن مواءمة عصر الانفجار المعرفي ومواجهة المشكلات المعاصرة بفاعلية وكفاءة من ناحية ، وغياب وعي الكثير من المدرسين والمدرسات والطلاب بالإبداع وأسسه النظرية وإجراءاته وبرامجه من ناحية أخرى.
فالمناهج الدراسية مقررة سلفاً بدون أي تدخل من المدرسين ، وهي مجرد عملية تلقين دون إبداع حقيقي ، لأنها مبرمجة طبقاً للزمان والمكان.
أما المدرس فيشجع قدرات الذاكرة على حساب قدرات الابتكار ويهتم بالتسليم الأعمى لما يلقيه من دروس ولا يطيق مناقشتها ، بحجة أن لديه مقررات دراسية يتعين عليه انجاز شرحها في زمن محدد ، وهو غالباً ما يضيق ذرعاً بالأسئلة المحرجة التي يلقيها الطلبة ولا يرحب بالحلول غير المألوفة للمسائل ومن ثم ينزع إلى كبت طموحاتهم ويقيد نزعاتهم الفكرية الطليقة .
كما أن متابعة انجاز المدرسين للمقررات الدراسية لها الأولوية على ثقافة الإبداع ، إذ إن حفظ المعلومات وتخزينها يقدم على العملية الإبداعية كهدف تربوي يركز عليه متخذو القرار في جميع توجهاتهم واجتماعاتهم
كما يرى "تورنس وسافتر" Torrance and SAfter أن المعلمين غالباً ما يكونون غير مؤهلين لتنمية وتشجيع وتقييم الإبداع لدى الطلبة ، فضلاً عن أن معظم البحوث تؤكد أن الطلبة المبدعين غالباً ما يفقدوا قدراتهم الإبداعية.
ولا نلقي باللوم على المدرس وحدة فالمدرس لم يتلقى أثناء مدة الإعداد في كليات التربية أية برامج لتنمية مهارات التفكير وبضمنها مهارات الإبداع والتدريس الإبداعي ، وهذا ما أكدته (السرور) بقولها لا يوجد في الجامعات أو الكليات في المنطقة العربية برامج تقدم مواد تدريبية تعمل على إعداد المدرس ( على اختلاف التخصصات ) بحيث يصبح قادراً على تعليم مهارات التفكير بشكل مستقل أو ضمن المنهج المدرسي داخل الصف أو خارجه بما يتعدى نطاق المنهج المقرر.
لذلك فأن تنمية مهارات المدرسين تمكّنهم من تيسير عملية التغيير في المهارات الإبداعية لدى طلابهم
لذلك نحن مدعون في تعليمنا المعاصر إلى تبني منهجاً أصيلاً يدعو إلى تعويد المتعلمين على الإبداع في الفكر والسلوك ، ودعم أسس الإبداع ، ودعم ثقافة الإبداع في المناهج الدراسية والممارسات التعليمية في نطاقها الشامل.
إذ لم تعد عملية التعلُّم تشير إلى اكتساب الطلبة مجموعة من المعارف والمهارات والاتجاهات فحسب ، وإنما أصبحت تشير إلى عملية تعديل وتغيير شامل وعميق لسلوك المتعلمين ليصبحوا أكثر قدرة على استثمار كل الطاقات والإمكانات الذاتية استثماراً ابتكارياً وإبداعياً وخلاقاً إلى أقصى الدرجات والحدود ، ولا يتحقق هذا إلا إذا تطورت طرائق تفكيرهم تطويراً خلاقاً وإبداعياً .
لذلك علينا أن نهجر التعليم الذي يركز على نقل التراث الثقافي بين الأجيال ويركز على اكتساب المعرفة المسجلة وحفظها واستظهارها ، لأنه تعليم تقليدي يحافظ على ما هو قائم ، ويكرس التخلف ، ويقتل قدرات العقل البشري من تفكير وتصور وتخيل وإبداع ، فالعقل البشري إن لم يبدع فليس بعقل ، فناقل إبداعات غيرة مثل حافظ تراث أسلافه فكلاهما ينهل من ثقافة الذاكرة ولا يرد مورد الإبداع
ونظراً لأهمية الإبداع في إيجاد حلول إبداعية للمشكلات الحياتية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، كان من المهم تنميته وإكسابه للطلبة في مراحل التعليم ، من خلال تقديم طرائق تدريس مختلفة وبرامج تدريبية ومناهج إبداعية.
كما يتفق الكثير من علماء التربية وعلماء النفس على ضرورة بناء برامج لتنمية الإبداع.
إذ أصبح الإبداع مشكلة مهمة من مشكلات البحث العلمية في عدد كبير من الدول ، وتزايد الاهتمام بموضوع الإبداع والمبدعين في الكثير من الدول والمجتمعات ، ويعد مجتمع التعليم الجامعي في العراق واحد من المجتمعات المهمة الذي يحتاج إلى الاهتمام الكبير خاصة في الجانب العقلي والإبداعي ، من خلال استخدام الطرق والبرامج العلمية الحديثة في تطويره .
كما اهتمت الكثير من الهيئات الأمريكية بدعم بحوث الإبداع في الجامعات ومعاهد بحوث التربية الإبداعية ، وخصصت ميزانية خاصة لبحوث الإبداع ، إيمانا منها بما تقدمه هذه البحوث لها ، كما انتشر الاهتمام بالتربية الإبداعية ويعد معهد التربية الإبداعية التابع لجامعة نيويورك ( بوفالو ) من ابرز الجهود في هذا السبيل ، الذي يعد مركزاً قومياً أمريكيا للإعلام والتدريب على طرق التدريس التي تساعد على تنمية المهارات الإبداعية في التفكير وحل المشكلات بطرق مبتكرة ، فضلا عن جهود مركز تنمية المهارات الإبداعية بجامعة وسكونسن ، إذ توجد برامج خاصة للتربية الإبداعية .
وعلى المستوى العربي عُقد المؤتمر السنوي السابع من 22-24 ابريل 1991م بوزارة التربية والتعليم في البحرين تحت عنوان ( دور المعلم في تعليم التفكير الإبداعي ) . وفي العاصمة الأردنية عمّان عقد ( المؤتمر الثاني للموهبة والإبداع ) عام ( 2002م ) ، ومن ابرز توصياته إعادة النظر في المناهج الدراسية وأساليب التدريس بحيث يكون الإبداع والمبدعين من احد أهدافها . كما عقدت ندوة وبدعوة من اتحاد الكتاب العرب في دمشق خلال المدة (25-29/11/ 1989م) موضوعها ( الثقافة العربية بوصفها إبداعاً) وكانت من توصياتها توجيه وزارات التربية العربية لإتاحة الفرصة للمبدعين للمساهمة في طرق وأساليب تناول مناهج التعليم للعملية الإبداعية ، كما دعت المؤسسات التعليمية والإعلامية والثقافية إلى التركيز على قيم الإبداع والابتكار والتجديد في برامجها وخططها وتوجيهاتها.
أما على مستوى العراق فقد عقد ( المؤتمر الثاني للعلوم النفسية ) في رحاب كلية التربية ابن رشد جامعة بغداد للفترة من ( 13-14 ) نيسان عام ( 2002م ) ، إذ ألقيت في المؤتمر العديد من الدراسات والبحوث التي تناولت التفكير الإبداعي ، وخرجت بعدد من التوصيات منها :
1. إعادة النظر بالمناهج الدراسية واغنائها بمهارات التفكير الإبداعي .
2. تبني طرائق تدريس حديثة تساعد في تنمية التفكير الإبداعي .
3. إجراء المزيد من البحوث على الإبداع ، من قبل أساتذة الجامعة وطلبة الماجستير والدكتوراه .
وعلى الرغم من وجود بعض الجهود في رعاية الإبداع والمبدعين في بعض البلاد العربية، إلا أنها لا تزال جهودًا محدودة ، وغير كافية لتحقيق الرعاية المطلوبة للإبداع والمبدعين . ، إذ إن العديد من الدراسات التقليدية للإبداع اتخذت من أفكار "جيلفورد" (Guilford) "وتورانس" ((Torrance اطر نظرية لها ، إذ حصرت الإبداع في مهارات الطلاقة ، والمرونة ، والأصالة ، والحساسية تجاه المشكلات ، وإدراك التفاصيل ، ومن ثم قيست هذه المهارات بالأعم الأغلب باختبار تورانس للتفكير الإبداعي ، وبذلك فأن رؤية دي بونو (De Bono) لمهارات الإبداع الجاد تختلف عن رؤية العلماء السابقين من أمثال تورانس وجيلفورد وغيرهم من العلماء الذين حصروا مهارات الإبداع في الطلاقة والمرونة والأصالة والحساسية تجاه المشكلات ، وإدراك التفاصيل ( الإفاضة ) وهذا يتطلب العمل على توفير مقاييس واختبارات جديدة لها القدرة على قياس هذه المهارات التي نادى بها "دي بونو " .
إن تعليمنا السائد يرسخ في أذهان طلبتنا إن لكل مسألة إجابة واحدة ، وان لكل مشكلة حلاً واحداً ، والأمر في الحقيقة على العكس من ذلك تماماً ، ومن جراء أحادية الإجابة وأحادية الحل ، اقتلعنا من نفوس أبنائنا المرونة العقلية والنفسية التي هي المعيار الأساس لكل إبداع أثمر هذا النوع من التعليم في عقولنا وعقول أبنائنا أحادية الرؤية في تفسير الأحداث والوقائع الإنسانية الكامنة وراءها ، والطالب عندنا يتعلم أن الأشياء أما أن تكون خطأ وأما صواباً ، ولا منزلة بين المنزلتين ، والمواقف من هذه الأشياء إما الرفض وإما القبول ، مع تجاهل احتمالات التعامل المرن ، والتسليم للزمن بحقه في توضيح الرؤية أو تنضيج الحلول ، والأشخاص أما خصوم وأما أصدقاء ، وفي كل الأحوال لا مكان لحسن النية وكرامة الاجتهاد عندما يكون التعامل مع الآخرين في موقف الاختلاف في الرأي والتباين في تقدير الظروف
لذلك ينبغي أن ننتقل بالتعليم إلى التعليم الذاتي وتدريب الطلبة على التفكير التخيلي والإبداعي والتوقعي (شحاتة ،2008م ب، ص66) .
يفسر هذا النمط الأحادي للتعليم السياسة التربوية التقليدية والتي تعكس توجهات الأنظمة الاستبدادية التسلطية وفلسفتها التي تجعل من التعليم وسيلة لبناء الشخصية السلبية والمنقادة للحاكم ، والمتلقية للمعلومة بصورة غير قابلة للمناقشة وإبداء الرأي ، وقدسية ما جاء في المقررات الدراسية . وبالرغم من التحولات السياسية التي نشهدها اليوم إلا أن السياسة التربوية لا تزال تعتمد على الرأي الواحد وتقديس ما موجود في الكتاب المقرر ، بسبب ثقافة لها جذور عشرات السنين تشربت بها معظم الجهات التربوية ، لذلك نحن بحاجة ماسة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى ثقافة الإبداع والتي تؤكد على وجود أكثر من بديل وحل للمشكلة الواحدة ، والمرونة الفكرية ، والدور الايجابي للمتعلم في العملية التعليمية .
وهذا ما لمسه الباحثان من خلال خبرتهم التدريسيه الطويله ولقاءاتهم مع الكثير من المدرسين المبتدئين منهم والمتمرسين من خلال تأكيدهم بأن إجابة الطالب واضحة إما صحيحة أو خاطئة حتى دون أن يستمعوا إلى نهاية الإجابة في اغلب الأحيان ، وهذا يشكل إحباطا لأفكار الطلبة ودافعيتهم من ناحية ، وقتلاً لإبداعاتهم من ناحية أخرى ، وتقولباً لتفكيرهم في اطر جامدة بعيدة عن المرونة الفكرية من ناحية ثالثة . أن الاهتمام بالجانب المعرفي أصبح سمة مميزة من جانب المهتمين بالعمل التربوي بصورة عامة ، والمدرسين بصورة خاصة من خلال تأكيدهم على الحفظ لأكبر مقدار من المحتوى الدراسي والذي يظهر في إجابات طَلبّتهم الشفوية منها والتحريرية ، وقد لمس الباحث من خلال عمله في التدريس إن الكثير من إجابات الطلبة التي تبدو غريبة لأول وهلة تٌجابه بردة فعل اقرب ما تكون إلى السخرية والاستهزاء من المدرس مما تحجم مشاركات الطلبة في الأنشطة التعليمية من ناحية ، وتقتل الإبداع لديهم من ناحية أخرى ، مما يترتب على ذلك تكوين جيل سلبي متلقي بعيد عن الإبداع .
ولهذا فان مجتمعنا اليوم في اشد الحاجة إلى إعادة النظر في المناهج الدراسية التي تركز على الجانب الأكاديمي للفرد منذ الطفولة دون العناية الكافية بالتفكير الإبداعي ، وكما يعتقد بياجيه Piaget فان الهدف الأساسي من التعليم هو تربية أفراد قادرين على تقديم الجديد ، وكما يذكر زاندين Zanden تربية أفراد مبدعين مخترعين ومكتشفين .
كما يعتقد جوان (Gowan) أنّه ينبغي القيام بدراسة الإبداع لدى طلبة الجامعات والمدارس الثانوية بصورة مباشرة .
إذ يشير احد المفكرين الأوربيين إلى انه لا يمكن أن ننمي الإبداع لدى المتعلمين في مراحل التعليم قبل الجامعي ، إلا إذا توافر المدرس المؤهل على القيام بدوره كاملاً في تنمية الإبداع ، وقبل ذلك لا بد أن يكون هذا المدرس مبدعاً .
إذ إن التعليم من اجل التفكير أو تعليم مهارات الإبداع هدف مهم للتربية ، وان المعلمين يريدون لطلبتهم التقدم والنجاح ، إذ أن معظمهم يعتبرون مهمة تطوير مهارة كل طالب على الإبداع هدفاً تربوياً يضعونه في مقدمة أولوياتهم ، لكن عند صياغة الأهداف التعليمية يعبرون عن آمالهم وتوقعاتهم في تنمية إبداعات طلبتهم ، كي يصبحوا قادرين على التعامل بفاعلية مع مشكلات ومواقف الحياة حاضراً ومستقبلاً . لكن الفرق بين القول فيما يراد تحقيقه في التعليم وبين النتاجات الفعلية لهذا التعليم كما تعكسها خبرات ومهارات الطلبة في مختلف المراحل الدراسية كبيرة للغاية . فما زال الاهتمام بتذكر واستدعاء وحفظ المعلومات من الطالب ، دون توجيه اهتمامه بمهارات الإبداع وأساليب الحصول على المعرفة والخبرة من تلقاء نفسه
وفي ضوء تحوّل الاهتمام نحو مهارات التفكير الإبداعي أصبح تحقيق هذه الأهداف يتطلب من المدرس اكتساب مهارات واستراتيجيات جديدة .
إن نوعية المدرس متغير أساسي في تنمية القدرات الإبداعية لدى الطلبة ، إن المدرسين الذين يبدون سلوكاً أكثر أصالة وإثارة يكون طلابهم أكثر قدرة على المبادرة ، وأكثر قدرة على القيام بأنشطة من النوع الإبداعي ، فمن يمتلك يستطيع أن يعطي ، كما أن المبتكر لا يبتكر من ذاته بل يستثيره الآخرون ، فالمدرس الناجح هو الذي يخلق جواً في قاعة الدرس يساعد على ممارسة الإبداع ، ولا تقتصر أهمية المدرس المبدع على دوره المباشر في تنمية الإبداع ، وإنما يتعداه إلى ما يتبنى اتجاهات ايجابية نحو الابتكارية .
إن تشجيع الإبداع داخل غرفة الصف من المهام والواجبات الرئيسة لجميع المدرسين ، ويمكن تحقيق هذا النمط من التفكير لعدد كبير من الطلبة من خلال تزويد الطلبة بفرص النجاح .
ولذلك فان المدرس حتى يكون مبدعاً ، ويكون إبداعه إنتاجياً وبنّاء لابد من تدريبه على استخدام أسلوب محدد يتبناه المدرس لتربية الإبداع وتنميته ، فان ذلك يجعل العملية واستغلال قدرات الطلبة ، بتوظيف المواد الدراسية كوسيط مناسب للتدريب على الإبداع )
والمعلمون الذين يعدون عنصر مهما في نجاح العملية التربوية ، بحاجة أن يتدربوا " على إلقاء المحاضرات المثيرة للفكر ، و إدارة النقاش ، وإحداث التعلم في طلبتهم بأسلوب يثير دافعيتهم وتعلمهم المستقل .
إذن فلابد من تنشئة قيم إبداعية عند المدرس حتى يكون مقتنعاً بممارسة هذا السلوك في حياته اليومية أو علاقاته الاجتماعية أو في ممارساته المهنية ، وفي مقدمة المتصلين به هنا طلبته الذين يتصل بهم ويتفاعل معهم كل يوم
وقد أوضحت الدراسات مخاطر عدم توفر بعض الخصال في المدرسين ؛ مما يمنع التفكير الطليق ، ومن تنمية أفكارهم وابتكار حلول جديدة للمشكلات التي تواجههم في الأعمال المدرسية أو الأعمال اليومية . وتؤكد هذه الدراسات خطورة الضغوط التي يمارسها المدرسون ؛ إذ تبين أن معظمهم يضيق ذرعاً بالتلاميذ ذوي الأفكار والحلول المبتكرة الذين لا يفكرون بنفس طريقتهم ويتوصلون لنفس حلولهم ، وبنفس صيغهم للمشكلات ولحلها . وهذا لا يشجع إلا على الالتزام الحرفي والاتباعية ، في كل ما يلقى على التلميذ من دروس ، مما يقضي على مرونة التفكير واستقلاله وأصالته.
إن ما يحصل في مدارسنا اليوم هو الاهتمام الواضح والكبير بتزويد الطلبة بالحقائق المعرفية وكذلك العناية بالمتفوقين منهم ، فالطالب ذو التحصيل المرتفع يحظى بتقدير كبير من قبل المدرسين وإدارة المدرسة وزملائه ويحظى بتشجيع أكثر لزيادة تحصيله ، بينما قد لا نجد ذلك التقدير للطالب المبتكر المبدع.
وهذا ما أكّده العلماء والباحثون في مجال الإبداع أن مصدر الإبداع هو الأفراد ويعمل المجتمع المحيط بهم دائماً على مقاومتهم أو إحباطهم .
ان الأساليب التدريس المتبعة ليست بالأساليب المشجعة على الإبداع إنما أساليب لقضاء حاجة التدريس ولا تقصد تنمية التفكير وإدراكه والوعي به .
أن إشاعة روح السؤال ، والوقوف على حقيقة الإبداع وماهيته ، والمتطلبات اللازمة للاستكشاف وكذلك الأبعاد الفنية في التفكير باعتبارها جزءا من تدريس المعرفة لم تحظ منا إلا بالقليل من الرعاية والاهتمام.
كما يشير تقرير التنمية الإنسانية العربية ان احد الشروط للتطوير النوعي للتعليم الجامعي هو استخدام أساليب التدريس الإبداعي التي تتمحور فيها العملية التعليمية حول الطالب وليس عضو هيئة التدريس كما هو سائد في الأساليب المعتمدة للتدريس الجامعي في معظم الجامعات العربية.
وقد أوصى الباحثين بضرورة قيام المعلمين بتدريب الطلبة على أساليب التفكير والإبداع وتدريبهم على أساليب الاستكشاف والتقصي.
كما أوصت العديد من الدراسات بضرورة الاهتمام بموضوع "تعليم التفكير" في برامج إعداد المعلمين ، وتضمين الخطط الدراسية الجامعية مادة خاصة بذلك ، وعقد دورات وندوات وورش عمل للتعريف بأنواع التفكير والبرامج الخاصة بتعليمه ، وتوفير بيئة جامعية تشجع على الإبداع وتدعو إليه ، وتغيير الممارسات التقليدية التي تركز على المعلومات وحفظها ، والتي لا تعطي فرصاً كافية للطلاب للتفكير والتأمل.
أن أعظم معيقات الإبداع الأساليب التربوية التقليدية القائمة على الكتب والدفع في اتجاه واحد حتى نحصل على مخرجات من طراز الآباء والأجداد، أن الدول المتقدمة تحرص على تجديد إستراتيجيتها التربوية من حين لآخر لتتمكن من مواجهة التحديات المستقبلية عبر الإبداع ، وتصميم مناهج ومقررات تربوية ترتقي بالإبداع في جميع المراحل التعليمية .
كما أوصت دراسة (الكرش ، 1997) بضرورة تدريب المعلمين قبل الخدمة على مجموعة السلوكيات التي تيسر عملية الابتكار داخل غرفة الصف .
إذ إن مستقبل التربية في الوطن العربي رهن بالارتقاء بمستوى المعلم والنهوض بمهنة التعليم، ومع تقدم العلوم النفسية والتربوية والانفجار المعرفي والتطور التكنولوجي السريع لم يعد يكفي أن يتقن المعلم المادة العلمية التي يدّرسٌها، ولم يعد مجرد ملقن للمعرفة ؛ بل أصبح عليه أن يكون موجهاً ومنسقاً ومشجعاً ومحفزًا لتعليم المتعلمين.
وتشير كثير من الدراسات والأدبيات إلى أن تحقق ذلك يقع ضمن مسؤولية كليَّات التربية وأنه لا يتم إلا بإعادة النظر في كيفية إعداد وتقديم برامج التدريس ومحتوياتها في هذه الكليات ومؤسسات إعداد المدرس إجمالا ، واتصالها بالجديد لترتقي بمستوى إعداد المدرس إلى حيث ينبغي أن يكون.