عندما نحاول البحث في هذا الموضوع ، ونواصل إغناء مثل هذا المفهوم لابد لنا من أن نتابع الاستعمالات القرآنية لكلمة «الاسلام» ونتحرى موارد اطلاقها ، وحالات انطباقها من خلال الايات القرآنية الكثيرة التي تحدثت عن الدين والعبودية والاسلام لرب العالمين على لسان الانبياء والمرسلين من نوح (عليه السلام)إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) .
فإذا فعلنا مثل هذه المتابعة استطعنا أن نكتشف الاستعمال الدقيق لهذه الكلمة «الاسلام» والتشخيص الواضح لمعناها . . واستطعنا أن نعرف أيضاً أن الاسلام دين الرسل ، ودعوة الانبياء ، والعنوان الجامع لها .
وقد أورد القرآن الكريم الاستعمالات المتكررة لكلمة الاسلام ; بمعنى الايمان الصادق والخضوع الكامل لامر الله سبحانه ، بصيغ وأساليب متعددة; كصيغة الامر والدعاء والاخبار . . الخ على لسان الانبياء والصفوة المؤمنة من أتباعهم ، وهم يعلنون إسلامهم ، أو يدعون إليه فيستجيبون .
قال تعالى حاكيا عن لسان نوح (عليه السلام) قوله:
(فَإن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سأَلْتُكُم مَّنْ أَجْر إنْ أَجْرِيَ الاَّ عَلَى الله وأُمِرْتُ أنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) .
(يونس/72)
وقال تعالى في مورد آخر ، راوياً صيغة الخطاب الالـهي الموجه لابراهيم(عليه السلام):
(إذْ قَالُ لَهُ رَبُّهُ أَسلِمْ قَالَ أسْلَمْتُ لِرَبَّ الْعَالَمِين *وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّين فَلاَ تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) .(البقرة/131ـ132)
وقال تعالى:
( . . . مِّلَّةَ أبِيِكُمْ إبْرَاهِيَم هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ . . .) .(الحج/78)
وقال تعالى متحدثاً عن لسان يوسف (عليه السلام):
(رَبَّ قَدْ آتَيْتني مِنَ الْمُلْك وَعَلمْتَّنِي مِن تّأْويلِ اْلاَحَادِيثِ فَاطِ رَ السَّمَوَاتِ وَاْلاَرْضِ أَنتَ وَليِّ فِي الدُّنْيَا وَاْلاخِرَهِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالِصَّلِحِينِ) .(يوسف/101)
وقال تعالى ناقلاً حوار موسى (عليه السلام) مع قومه:
(وَقَالَ مُوسَى يَاقَّوْمِ إن كُنتُمْ آمَنتُم بِالله فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إن كُنتُم مُّسْلِمينَ) .(يونس/84)
وقال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيَها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلّذِينَ هَادواْ . . .) .(المائدة/ 44)
وقال تعالى: (وَإذْ أَوْحَيْتُ إلَى الحواريين أنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولي ، قَالُوْاْ آمَنّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِموُن) .(المائدة/111)
ومثل مقالة الانبياء جميعاً قال سيد المرسلين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم):
(إنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا ولَهُ كُلُّ شَيء ، وَأُمِرْتُ أنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) .(النمل/91)
وهكذا تلتقي وتجمع هذه الدعوات الالـهيه على امتداد خط الاسلام لرب العالمين ، بمعناه الحقيقي المرادف لمعنى العبودية ، والايمان الصادق بالله تعالى ، والذي بدا واضحاً في استعمال إبراهيم (عليه السلام) لهذه الكلمة وقوله: (أَسْلَمْت لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) ، واتخاذه هذا الاسلام ديناً يتعبد به ، وأمانة يوصي بها بنيه وأتباعه ، وشعاراً لاهل التوحيد ، وعنواناً لدعوة الايمان:
( . . .مِلَّةَ أَبِيِكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسلِمينَ مِن قَبْلُ . . .) .(الحج/78)
وهكذا يوصلنا القرآن الكريم إلى أن الانبياء جميعاً كانوا يسيرون على هذا الخط الايماني الموحد ، ويتجهون نحو غاية واحدة ، وهي: «تحقيق العبودية لله ، وإسلام البشرية لرب العالمين ، وتحريرها من عبادة الطواغيت ، والاهواء ، ومن كل صنوف العبوديات البشرية الضالة» .
وللحقيقة ذاتها اعتبر القرآن الكريم الايمان بكل الانبياء والرسل ركناً أساسياً من عقيدة المسلم ، ودليلاً تاريخياً ومنطقياً على صدق الرسالة المحمدية ، قال تعالى:
(قُولُواْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ إلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إبْرَاهِيمَ وَاسْمَاعِيلَ وَإسْحقَ وَيَعْقوبَ وَاْلاَسْبَاطِ وَمَا أوتيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَآ أوتيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرَّقُ بَيْنَ أَحَد مّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) .(البقرة/136)
(قُلْ مَا كُنتُ بدْعاً مِّنَ الرُّسُل وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إنْ أَتَّبعُ إلاّ مَا يُوحَى إِليَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاّ نَذِيرٌ مُّبيِنٌ) .(الاحقاف/9)
ومن هنا نفهم أن الانبياء جميعاً حملوا للبشرية دينا واحداً ، وبشروا بعقيدة واحدة ، قد جعلها الله سبحانه أساساً ومنطلقاً لاصلاح البشرية ، وسبباً لانقاذها من التخبط والضياع في ظلمات التيه والجاهلية التي أفرزتها عصور الخرافة ، وحاكت نسيجها أساطير الشعوب المتدنية ، فعانى الانسان منها ما عاناه من عبادة الطواغيت ، ومن الفقر ، والظلم ، والجهل ، والفساد ، وما زال يعاني ، وسيبقى يعاني ما لم يعد الى منهج الانبياء ، ودعوة الرسل التي انصبت جميعها في مصب واحد ، واستهدفت هدفاً واحداً; وهو انقاذ الانسانية ، وخلاص البشرية ، جيلاً بعد جيل ، وأمة بعد أمة ، من تلك المآسي والعبوديات .
وقد أراد الله سبحانه ، لرسالاته هذه جميعاً أن ينصب عطاؤها ، وتلتقي روافدها في مجرى واحد ، وتتركز أنوارها في بؤرة واحدة ، وتكتمل دعواتها في دعوة واحدة . . فكانت دعوة الاسلام ، ورسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هي الدين الخالد ، وخاتمة الاديان والرسالات ، والمنهاج المهيمن على مناهج الرسل ، والمستوعب لها:
(وَأَنزَلْنَآ إليْكَ الْكِتَّابَ بِالْحَقِ مُصَدِّقاً لمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكتَّابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنَزَلَ الله وَلاَ تتبَّعْ أهْواءهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرعَةً وَمِنْهاجاً . .) . (المائدة/48)
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ باِلْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) .
(الصف/9)
مهيمناً على كل تلك الرسالات والشرائع بما يحمل بين جنبيه من عوامل السعة والشمول والخلود; ليمتد عبر مساحة التاريخ البشري ويستوعب كل مظاهر التطور والنمو في الحياة الانسانية . . . . وهكذا كان تيار الدين عطاءً متدفقاً كالنهر العظيم ينحدر صافياً ، ويسير ممتداً مع امتداد البشرية ، متمثلاً في الاسلام العظيم ، الدين الذي دعا إليه الانبياء ، ونادى به المرسلون فاغترفوا منه بقدر حاجة شعوبهم ، وامكانات أممهم ليتركوا تياره منسابا إلى من يعقبهم من أجيال وأمم وأنبياء ، وليأخذ كل جيل منه حاجته ، وليستمر نهر الرواء متدفقاً بالحياة والخصب والنماء للبشرية جميعاً ، وللانسانية في مختلف عصورها .
لذلك بعث الله الانبياء على فترات مختلفة من حياة البشرية ليرشدوا الانسان إلى شرائع هذا النهر الروحي العظيم الذي يبعث في إنسانيتهم الخصب والحياة:
(يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَّجِيبوُا لله وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِماَ يُحْيِيكُمْ . . .) .(الانفال/24)
ولذا كان نداء الانبياء الى شعوبهم وأممهم جميعاً هو خطاب واحد ونداء واحد . . .
ذلك لانهم كانوا جميعاً دعاةً للاسلام الذي هو دين البشرية كلها من بداية نشوئها ، وحتى نهاية أجلها على هذه الارض; فهو المادة التعبدية ، والاصلاحية التي صيغت وشرعت منه كل الرسالات والشرائع .
أما الفوارق التي نشاهدها بين ما يبلغه رسول وآخر يكمن سببها في حاجة البشرية ، ومستوى وعيها ، وادراكها ومدى تحملها .
لذا فان البشرية في منتهى نضجها وتكاملها ، كانت مهيأة لاستيعاب كل هذا الدين «دين الاسلام» وحمل دعوته والسير على هدى منهاجه ، ورسالته .
وهذا ما أوضحه القرآن الكريم وأكده بقوله:
(إنَ الدّينَ عِندَ الله الاسلام وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتوُاْالْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْد مَآجاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ ، وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله فَإنَّ الله سَريعُ الْحِسابِ) .(آل عمران/19)
(وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ اْلاسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي اْلاخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) .(آل عمران/85)
فكان هذا الدين هو الدين الذي استقى منه الانبياء رسالاتهم واستمدوا دعواتهم من غير أن يكلفوا بحمل هذا الدين أو تبليغه كاملاً الى أممهم،وشعوبهم،بل كلفوا وأمروا بتبليغ ما يصلح تلك الامم ، ويسد حاجاتها ، ويأخد بيدها الى طريق الهدى والسلام; كما أشار إلى ذلك البيان القرآني المتحدث عن الدين والرسالات ، وعن وحدة المصدر والغاية ، فيؤكد أن الدين واحد: «وهو الاسلام» ، وأن دعوات الانبياء ورسالاتهم جميعاً شرعت (أي تفرعت واستمدت)منه.
قال تعالى: (شَرَعَ لَكمُ مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً ، وَالَّذي أَوْحَينا إِلَيْك ، وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُواْ الِّدينَ وَلاَ تَتَّفَرَّقُواْ فِيُهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ، الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ ، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) .(الشورى/13)
وهكذا يثبت القرآن لنا وحدة الخط والاتجاه الذي سار عليه الانبياء ، ويؤكد أنهم (عليهم السلام)جميعاً أمروا باقامة الدين ، ونهوا عن التفرقة فيه . . . فوجهة البشرية واحدة ، وغايتها في الحياة واحدة; تستوعبها أطر الدين ، ودعوته العقائدية والاصلاحية ، مع تفاوت جزئي في المنهج والطريقة .
لذلك لا يصح أن نسمي دعوات الانبياء أدياناً متعددة ، بل هي دعوات متعددة ورسالات مختلفة لدين واحد حملها الانبياء إلى أجيال البشرية .
وقد اتضح لنا من استعراض القرآن لمفاهيم الدين والرسالات والاسلام: أن الدين الاسلامي هو الاطار الجامع لكل أهداف الدين الالـهي ، وهو الصيغة الكلية للرسالة الالـهية الكبرى التي تصبغ صورة الانسان والحياة على هذه الارض ، وهو المادة الاساسية التي شرعت منها الرسالات والدعوات الالـهية من قبل ، لنوح وإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام)وغيرهم من الرسل والانبياء ، (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكَتابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) .(الزخرف/4)
وهو صيغة الدين الالـهي الكلية التي ألقيت بكاملها الى نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ليبلغه ويدعو البشرية إليه بأرقى منهج ، وأنضج شريعة .
لذا كانت الدعوات والرسالات السابقة كلها دعوات منسوخة لان دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الدين كله الذي شرعت منه الشرائع والرسالات ، وهو المنهج الذي أريد للبشرية في نهاية شوطها التاريخي أن تهتدي به ، وتصنع حياتها على هدى دعوته ورسالته .
أما الرسالات السابقة للاسلام فهي رسالات مؤقتة ودعوات محدودة ، وممهدة لرسالة الاسلام ، ودعوته الكبرى .